الحديث ٢٥
«لَا يَجُوزُ الْمِرَاءُ فِي الْقُرْآنِ مُطْلَقًا، بَلْ يَجِبُ الْعَمَلُ بِمَا تَبَيَّنَ مِنْهُ، وَرَدُّ مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ مِنْهُ إِلَى الْعَالِمِ الَّذِي يَعْلَمُهُ وَيُبَيِّنُهُ بِإِذْنِ اللَّهِ»
رَوَى أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ [ت٢٤١هـ] فِي «مُسْنَدِهِ»[١]، قَالَ: حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ، حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، لَا أَعْلَمُهُ إِلَّا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
«نَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، وَالْمِرَاءُ فِي الْقُرْآنِ كُفْرٌ -ثَلَاثَ مَرَّاتٍ- فَمَا عَرَفْتُمْ مِنْهُ فَاعْمَلُوا، وَمَا جَهِلْتُمْ مِنْهُ فَرُدُّوهُ إِلَى عَالِمِهِ».
ملاحظة
قَالَ الْمَنْصُورُ حَفِظَهُ اللَّهُ تَعَالَى: هَكَذَا رَوَاهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِصِيغَةِ التَّمْرِيضِ، وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانٍ [ت٣٥٤هـ] فِي «صَحِيحِهِ»[٢] بِصِيغَةِ الْجَزْمِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، وَالْمِرَاءُ فِي الْقُرْآنِ كُفْرٌ -ثَلَاثًا-، مَا عَرَفْتُمْ مِنْهُ فَاعْمَلُوا بِهِ، وَمَا جَهِلْتُمْ مِنْهُ فَرُدُّوهُ إِلَى عَالِمِهِ»، وَقَوْلُهُ: «نَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ» قَوْلٌ ثَابِتٌ لِوُرُودِهِ بِالتَّوَاتُرِ، وَمَعْنَاهُ عِنْدِي أَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ عَلَى سَبْعَةِ أَوْجُهٍ، لَا عَلَى سَبْعِ قِرَاءَاتٍ، أَوْ سَبْعِ لُغَاتٍ مِنْ لُغَاتِ الْعَرَبِ، وَالْمَقْصُودُ تَعَدُّدُ مَا جَعَلَ اللَّهُ فِي كُلُّ آيَةٍ مِنَ الْفَوَائِدِ الَّتِي بَعْضُهَا أَظْهَرُ مِنْ بَعْضٍ، لِيَنْفَتِحَ عَلَى النَّاسِ بَابُ التَّدَبُّرِ وَالْإِجْتِهَادِ؛ كَمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ لِلْقُرْآنِ ظَهْرًا وَبَطْنًا، وَلِبَطْنِهِ بَطْنًا إِلَى سَبْعَةِ أَبْطُنٍ»[٣]، وَعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ»[٤]، وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: «مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ آيَةٌ إِلَّا وَلَهَا ظَهْرٌ وَبَطْنٌ»[٥]، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ [ت١٨١هـ]: «سَمِعْتُ غَيْرَ وَاحِدٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: مَا فِي كِتَابِ اللَّهِ آيَةٌ إِلَّا وَلَهَا تَفْسِيرٌ ظَاهِرٌ، وَتَفْسِيرٌ خَفِيٌّ، يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الْقَوْمُ فَيَسْتَعْمِلُونَهُ عَلَى تِلْكَ الْمَعَانِي، ثُمَّ يَذْهَبُ ذَلِكَ الْقَرْنُ، فَيَجِيءُ قَرْنٌ آخَرُ يَطَّلِعُونَ مِنْهَا عَلَى مَعْنًى آخَرَ، فَيَذْهَبُ عَلَيْهِ مَا كَانَ عَلَيْهِ مَنْ قَبْلَهُمْ، فَلَا يَزَالُ النَّاسُ عَلَى ذَلِكَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»[٦]، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: «إِنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، مَا مِنْهَا حَرْفٌ إِلَّا لَهُ ظَهْرٌ وَبَطْنٌ، وَإِنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ عِنْدَهُ عِلْمُ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ»[٧]، وَالْمَقْصُودُ أَنَّ كُلَّ آيَةٍ فِيهَا سَبْعُ فَوَائِدَ ظَاهِرَةٍ وَبَاطِنَةٍ، وَلَمْ يَجْمَعْ عِلْمَهَا إِلَّا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، فَمَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمَقْصُودَ نُزُولُ لَفْظِ الْقُرْآنِ عَلَى سَبْعَةِ أَشْكَالٍ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا؛ كَمَا رَوَى الْفُضَيْلُ بْنُ يَسَارٍ، قَالَ: «قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ -يَعْنِي جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ الصَّادِقَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ: إِنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فَقَالَ: كَذَبُوا أَعْدَاءُ اللَّهِ، وَلَكِنَّهُ نَزَلَ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ مِنْ عِنْدِ الْوَاحِدِ»[٨]، وَالْمِرَاءُ فِي الْقُرْآنِ كُفْرٌ إِذَا كَانَ فِي لَفْظِهِ، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ كُفْرٌ وَإِنْ كَانَ فِي مَعْنَاهُ، وَلَا بُعْدَ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يُرِدْ كَذَا، وَقَدْ أَرَادَهُ، تَكْذِيبٌ لِمَا أَرَادَ اللَّهُ، وَهُوَ كُفْرٌ، مِثْلُ الْقَوْلِ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَقُلْ كَذَا، وَقَدْ قَالَهُ، وَلِذَلِكَ لَا يَجُوزُ الْمِرَاءُ فِي الْقُرْآنِ مُطْلَقًا، بَلْ يَجِبُ الْعَمَلُ بِمَا تَبَيَّنَ مِنْهُ، وَرَدُّ مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ مِنْهُ إِلَى الْعَالِمِ الَّذِي يَعْلَمُهُ وَيُبَيِّنُهُ بِإِذْنِ اللَّهِ.
الشاهد ١
وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ [ت٣٦٠هـ] فِي «الْمُعْجَمِ الْأَوْسَطِ»[٩]، قَالَ: حَدَّثَنَا مُطَّلِبٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، حَدَّثَنِي اللَّيْثُ، قَالَ: قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي حَدِيثٍ: «إِنَّ لِلْقُرْآنِ مَنَارًا كَمَنَارِ الطَّرِيقِ، فَمَا عَرَفْتُمْ فَخُذُوهُ، وَمَا أَنْكَرْتُمْ فَرَدُّوهُ إِلَى عَالِمِهِ».
ملاحظة
قَالَ الْمَنْصُورُ حَفِظَهُ اللَّهُ تَعَالَى: هَكَذَا رَوَاهُ مَرْفُوعًا، وَرُوِيَ مَوْقُوفًا عَلَى مُعَاذٍ، وَسَلْمَانَ، وَعُمَرَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي حَدِيثِهِمْ: «مَا لَمْ تَعْرِفُوا مِنْهُ فَكِلُوهُ إِلَى اللَّهِ»[١٠]، وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ [ت٢٤١هـ] أَنَّهُ كَذِبٌ، وَالصَّحِيحُ: «كِلُوهُ إِلَى عَالِمِهِ»[١١]، وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ عَالِمَهُ هُوَ خَلِيفَةُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ، فَالرَّدُّ إِلَيْهِ هُوَ الرَّدُّ إِلَى اللَّهِ، وَالرَّدُّ إِلَى اللَّهِ هُوَ الرَّدُّ إِلَيْهِ.
الشاهد ٢
وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ [ت٢٧٥هـ] فِي «الْمَرَاسِيلِ»[١٢]، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي شُعَيْبٍ، حَدَّثَنَا مِسْكِينٌ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَرِيفٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، حَدَّثَنِي مَنْ لَا أَتَّهِمُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ خَوَّفَ مِنْ رِجَالٍ يَتَأَوَّلُونَ الْقُرْآنَ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ، ثُمَّ قَالَ: خُذُوا مَا تَعْرِفُونَ مِنَ التَّأْوِيلِ، وَمَا شَكَكْتُمْ فِيهِ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ.
الشاهد ٣
وَرَوَى الْمُسْتَغْفِرِيُّ [ت٤٣٢هـ] فِي «فَضَائِلِ الْقُرْآنِ»[١٣]، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْحَدَّادِيُّ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ أَحْمَدَ الْقَاضِي، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا أَبُو مَعْشَرٍ الْمَدَنِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثٍ: إِذَا قَرَأْتُمُ الْقُرْآنَ، فَمَا عَرَفْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَخُذُوا بِهِ، وَمَا لَمْ تَدْرُوا فَرُدُّوا عِلْمَهُ إِلَى عَالِمِهِ.