الحديث ٢٠
لا يخرج مع الإمام إلّا من كان على مثل عقيدته
رَوَى مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ [ت١٧٩هـ] عَلَى مَا فِي «الْمُدَوَّنَةِ»[١]، عَنِ الْفُضَيْلِ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نِيَارٍ الْأَسْلَمِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ:
خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قِبَلَ بَدْرٍ، فَلَمَّا كَانَ بِحَرَّةِ الْوَبْرَةِ أَدْرَكَهُ رَجُلٌ قَدْ كَانَتْ تُذْكَرُ مِنْهُ جُرْأَةٌ وَنَجْدَةٌ، فَفَرِحَ بِهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ حِينَ رَأَوْهُ، فَلَمَّا أَدْرَكَهُ قَالَ: «جِئْتُ لِأَتَّبِعَكَ وَأُصِيبَ مَعَكَ»، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ؟» قَالَ: «لَا»، قَالَ: «فَارْجِعْ، فَلَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ»، قَالَتْ عَائِشَةُ: ثُمَّ مَضَى حَتَّى إِذَا كَانَ بِالشَّجَرَةِ أَدْرَكَهُ الرَّجُلُ، فَقَالَ لَهُ كَمَا قَالَ أَوَّلَ مَرَّةٍ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَالَ أَوَّلَ مَرَّةٍ، فَقَالَ: «لَا»، قَالَ: «فَارْجِعْ، فَلَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ»، قَالَتْ: فَرَجَعَ لَهُ، وَأَدْرَكَهُ بِالْبَيْدَاءِ، فَقَالَ لَهُ كَمَا قَالَ أَوَّلَ مَرَّةٍ، فَقَالَ: «أَتُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ؟» قَالَ: «نَعَمْ»، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «فَانْطَلِقْ».
الشاهد ١
وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ [ت٢٣٠هـ] فِي «الطَّبَقَاتِ الْكُبْرَى»[٢]، قَالَ: أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُسْتَلِمُ بْنُ سَعِيدٍ الثَّقَفِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا خُبَيْبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ خُبَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ يُرِيدُ غَزْوًا، أَنَا وَرَجُلٌ مِنْ قَوْمِي، وَلَمْ نُسْلِمْ، فَقُلْنَا: «إِنَّا نَسْتَحْيِي أَنْ يَشْهَدَ قَوْمُنَا مَشْهَدًا لَا نَشْهَدُهُ مَعَهُمْ»، قَالَ: «وَأَسْلَمْتُمَا؟» قُلْنَا: «لَا»، قَالَ: «فَإِنَّا لَا نَسْتَعِينُ بِالْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ»، قَالَ: فَأَسْلَمْنَا وَشَهِدْنَا مَعَهُ، فَقَتَلْتُ رَجُلًا، وَضَرَبَنِي ضَرْبَةً، فَتَزَوَّجْتُ ابْنَتَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَكَانَتْ تَقُولُ لِي: «لَا عَدِمْتَ رَجُلًا وَشَّحَكَ هَذَا الْوِشَاحَ»! فَأَقُولُ لَهَا: «لَا عَدِمْتِ رَجُلًا عَجَّلَ أَبَاكِ إِلَى النَّارِ»!
الشاهد ٢
وَرَوَى الْوَاقِدِيُّ [ت٢٠٧هـ] فِي «الْمَغَازِي»[٣]، قَالَ: قَالُوا: كَانَ خُبَيْبُ بْنُ يَسَافٍ رَجُلًا شُجَاعًا، وَكَانَ يَأْبَى الْإِسْلَامَ، فَلَمَّا خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ إِلَى بَدْرٍ خَرَجَ هُوَ وَقَيْسُ بْنُ مُحَرِّثٍ، وَهُمَا عَلَى دِينِ قَوْمِهِمَا، فَأَدْرَكَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ بِالْعَقِيقِ، وَخُبَيْبٌ مُقَنَّعٌ بِالْحَدِيدِ، فَعَرَفَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ مِنْ تَحْتِ الْمِغْفَرِ، فَالْتَفَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ إِلَى سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، وَهُوَ يَسِيرُ إِلَى جَنْبِهِ، فَقَالَ: «أَلَيْسَ بِخُبَيْبِ بْنِ يَسَافٍ؟» قَالَ: «بَلَى»، قَالَ: فَأَقْبَلَ خُبَيْبٌ حَتَّى أَخَذَ بِبِطَانِ نَاقَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وَلِقَيْسِ بْنِ مُحَرِّثٍ: «مَا أَخْرَجَكُمَا مَعَنَا؟» قَالَا: «كُنْتَ ابْنَ أُخْتِنَا وَجَارَنَا، وَخَرَجْنَا مَعَ قَوْمِنَا لِلْغَنِيمَةِ»، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَخْرُجَنَّ مَعَنَا رَجُلٌ لَيْسَ عَلَى دِينِنَا»، قَالَ خُبَيْبٌ: «قَدْ عَلِمَ قَوْمِي أَنِّي عَظِيمُ الْغِنَاءِ فِي الْحَرْبِ، شَدِيدُ النِّكَايَةِ، فَأُقَاتِلُ مَعَكَ لِلْغَنِيمَةِ، وَلَا أُسْلِمُ»، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «لَا، وَلَكِنْ أَسْلِمْ ثُمَّ قَاتِلْ»، ثُمَّ أَدْرَكَهُ بِالرَّوْحَاءِ، فَقَالَ: «أَسْلَمْتُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَشَهِدْتُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ»، فَسُرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ، وَقَالَ: «امْضِ»، وَكَانَ عَظِيمَ الْغِنَاءِ فِي بَدْرٍ وَغَيْرِ بَدْرٍ، وَأَبَى قَيْسُ بْنُ مُحَرِّثٍ أَنْ يُسْلِمَ، وَرَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَلَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَدْرٍ أَسْلَمَ، ثُمَّ شَهِدَ أُحُدًا، فَقُتِلَ.
الشاهد ٣
وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ [ت٢٣٠هـ] فِي «الطَّبَقَاتِ الْكُبْرَى»[٤]، قَالَ: أَخْبَرَنَا خَالِدُ بْنُ خِدَاشٍ، أَخْبَرَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى السِّينَانِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ سَعْدِ بْنِ الْمُنْذِرِ، عَنْ أَبِى حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ يَوْمَ أُحُدٍ، حَتَّى إِذَا جَاوَزَ ثَنِيَّةَ الْوَدَاعِ إِذَا هُوَ بِكَتِيبَةٍ خَشْنَاءَ، فَقَالَ: «مَنْ هَؤُلَاءِ؟» قَالُوا: «هَذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيِّ بْنِ سَلُولَ فِى سِتِّمِائَةٍ مِنْ مَوَالِيهِ مِنَ الْيَهُودِ مِنْ أَهْلِ قَيْنُقَاعَ، وَهُمْ رَهْطُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ»، قَالَ: «وَقَدْ أَسْلَمُوا؟» قَالُوا: «لَا، يَا رَسُولَ اللَّهِ»، قَالَ: «قُولُوا لَهُمْ فَلْيَرْجِعُوا، فَإِنَّا لَا نَسْتَعِينُ بِالْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ».
الشاهد ٤
وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ [ت٢١٣هـ] فِي «سِيرَتِهِ»[٥]: ذَكَرَ غَيْرُ زِيَادٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: أَنَّ الْأَنْصَارَ يَوْمَ أُحُدٍ قَالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَا نَسْتَعِينُ بِحُلَفَائِنَا مِنْ يَهُودَ؟» فَقَالَ: «لَا حَاجَةَ لَنَا فِيهِمْ».
ملاحظة
قَالَ الْمَنْصُورُ حَفِظَهُ اللَّهُ تَعَالَى: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُخَالِفَ مَكْرُوهٌ أَنْ يَخْرُجَ مَعَ الْإِمَامِ وَإِنْ كَانَ ذَا قُوَّةٍ؛ لِأَنَّهُ يَخْرُجُ عَلَى غَيْرِ بَصِيرَةٍ وَإِخْلَاصٍ، فَمَا أَحْرَى أَنْ يَزِيدَ خَبَالًا؛ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾[٦]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا ۖ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ ۖ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ ۚ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾[٧]، وَلَا يَخْرُجُ مَعَ الْإِمَامِ إِلَّا مَنْ لَا يُظْهِرُ لَهُ خِلَافًا، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُظْهِرٍ جَازَ؛ فَقَدْ خَرَجَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ رِجَالٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ، وَرُوِيَ أَنَّ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ خَرَجَ مَعَهُ إِلَى حُنَيْنٍ وَالطَّائِفِ وَهُوَ مُشْرِكٌ؛ قَالَ بِشْرُ بْنُ عُمَرَ: «فَقُلْتُ لِمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ: أَلَيْسَ ابْنُ شِهَابٍ يُحَدِّثُ أَنَّ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ سَارَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، فَشَهِدَ حُنَيْنًا وَالطَّائِفَ وَهُوَ كَافِرٌ؟ قَالَ: بَلَى، وَلَكِنْ سَارَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ»[٨]، وَالظَّاهِرُ عِنْدِي أَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ مَعَهُ مُحَارِبًا، وَإِنَّمَا خَرَجَ لِيَرَى مَا يَنْتَهِي إِلَيْهِ أَمْرُهُ، وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَجْمَعَ السَّيْرَ إِلَى حُنَيْنٍ ذُكِرَ لَهُ أَنَّ عِنْدَ صَفْوَانَ سِلَاحًا، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ مُشْرِكٌ، فَقَالَ: «إِنَّهُ قَدْ ذُكِرَتْ لَنَا عِنْدَكَ سِلَاحٌ، فَأَعْطِنَاهَا نَسْتَعِينَ بِهَا فِي حَرْبِنَا هَذِهِ»، فَقَالَ لَهُ صَفْوَانُ: «أَغَصْبًا يَا مُحَمَّدُ؟» قَالَ: «بَلْ عَارِيَةٌ مَضْمُونَةٌ حَتَّى نُؤَدِّيَهَا إِلَيْكَ»، قَالَ: «لَيْسَ بِهَذَا بَأْسٌ»، فَأَعْطَاهُ مِائَةَ دِرْعٍ بِمَا يَكْفِيهَا مِنَ السِّلَاحِ[٩]، فَزَعَمُوا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ سَأَلَهُ أَنْ يَكْفِيَهُمْ حَمْلَهَا، فَفَعَلَ[١٠]، وَرُوِيَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ اسْتَعَارُوا مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ آلَةً كَثِيرَةً مِنْ مَسَاحِي وَكَرَازِينَ وَمَكَاتِلَ، يَحْفِرُونَ بِهِ الْخَنْدَقَ، وَهُمْ يَوْمَئِذٍ سِلْمٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، يَكْرَهُونَ قُدُومَ قُرَيْشٍ -يَعْنِي يَوْمَ الْخَنْدَقِ-[١١]، وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ كَتَبَ مُعَاهَدَةً بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ، فَكَتَبَ فِيهَا أَنَّ الْيَهُودَ يُنْفِقُونَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ مَا دَامُوا مُحَارِبِينَ[١٢]، وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ اسْتَأْجَرَا رَجُلًا مِنْ بَنِي الدِّيلِ، هَادِيًا خِرِّيتًا، الْخِرِّيتُ: الْمَاهِرُ بِالْهِدَايَةِ، وَهُوَ عَلَى دِينِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ، فَأَمِنَاهُ، فَدَفَعَا إِلَيْهِ رَاحِلَتَيْهِمَا، وَوَعَدَاهُ غَارَ ثَوْرٍ بَعْدَ ثَلَاثِ لَيَالٍ، فَأَتَاهُمَا بِرَاحِلَتَيْهِمَا صَبِيحَةَ لَيَالٍ ثَلَاثٍ، فَارْتَحَلَا، وَانْطَلَقَ مَعَهُمَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ، وَالدَّلِيلُ الدِّيلِيُّ، فَأَخَذَ بِهِمْ طَرِيقَ السَّاحِلِ[١٣]، وَفِي هَذِهِ الرِّوَايَاتِ دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ الْإِسْتِعَانَةِ بِالْكَافِرِ فِي غَيْرِ الْحَرْبِ إِذَا كَانَ مُعَاهَدًا أَوْ كَانَ مَأْمُونًا، وَرَوَى الطَّحَاوِيُّ [ت٣٢١هـ] فِي «شَرْحِ مُشْكِلِ الْآثَارِ»[١٤]، قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ شُرَيْحٍ، أَنَّهُ سَمِعَ الْحَارِثَ بْنَ يَزِيدَ الْحَضْرَمِيَّ يُحَدِّثُ عَنْ ثَابِتِ بْنِ الْحَارِثِ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ بَعْضِ مَنْ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: لَمَّا بَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ جَمْعُ أَبِي سُفْيَانَ لِيَخْرُجَ إِلَيْهِ يَوْمَ أُحُدٍ، انْطَلَقَ إِلَى الْيَهُودِ الَّذِينَ كَانُوا فِي النَّضِيرِ، فَوَجَدَ مِنْهُمْ نَفَرًا عِنْدَ مَنْزِلِهِمْ، فَرَحَّبُوا، فَقَالَ: «إِنَّا جِئْنَاكُمْ لِخَيْرٍ، إِنَّا أَهْلُ الْكِتَابِ، وَأَنْتُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، وَإِنَّ لِأَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ النَّصْرَ، وَإِنَّهُ بَلَغَنَا أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ قَدْ أَقْبَلَ إِلَيْنَا بِجَمْعٍ مِنَ النَّاسِ، فَإِمَّا قَاتَلْتُمْ مَعَنَا، أَوْ أَعَرْتُمُونَا سِلَاحًا»؛ فَقَالَ قَوْمٌ بِجَوَازِ الْإِسْتِعَانَةِ بِأَهْلِ الْكِتَابِ فِي قِتَالِ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ اسْتِنَادًا إِلَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَقَدْ تَفَرَّدَ بِهِ ثَابِتُ بْنُ الْحَارِثِ، فَغَلَطَ فِيهِ، وَالصَّحِيحُ الَّذِي رَوَاهُ النَّاسُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ اسْتَعَانَ بِهِمْ فِي دِيَةِ رَجُلَيْنِ قَتَلَهُمَا عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيُّ، وَلَمْ يَسْتَعِنْ بِهِمْ فِي قِتَالٍ، فَقَالُوا: «نَعَمْ، يَا أَبَا الْقَاسِمِ، نُعِينُكَ عَلَى مَا أَحْبَبْتَ مِمَّا اسْتَعَنْتَ بِنَا عَلَيْهِ»، ثُمَّ خَلَا بَعْضُهُمْ بِبَعْضِ، فَقَالُوا: «إِنَّكُمْ لَنْ تَجِدُوا الرَّجُلَ عَلَى مِثْلِ حَالِهِ هَذِهِ»، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ إِلَى جَنْبِ جِدَارٍ مِنْ بُيُوتِهِمْ قَاعِدٌ، «فَمَنْ رَجُلٌ يَعْلُو عَلَى هَذَا الْبَيْتِ، فَيُلْقِي عَلَيْهِ صَخْرَةً، فَيُرِيحُنَا مِنْهُ؟» فَانْتَدَبَ لِذَلِكَ أَشْقَاهُمْ، فَصَعِدَ لِيُلْقِيَ عَلَيْهِ صَخْرَةً، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ الْخَبَرُ مِنَ السَّمَاءِ بِمَا أَرَادُوا، فَقَامَ وَخَرَجَ رَاجِعًا إِلَى الْمَدِينَةِ، فَأَقْبَلَ أَصْحَابُهُ حَتَّى انْتَهَوْا إِلَيْهِ، فَأَخْبَرَهُمْ بِمَا أَرَادَ الْقَوْمُ مِنَ الْغَدْرِ بِهِ، وَأَمَرَ بِالتَّهَيُّؤِ لِحَرْبِهِمْ وَالسَّيْرِ إِلَيْهِمْ[١٥]، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يَسْتَعِيرُ مِنَ الْكُفَّارِ وَيَسْتَأْجِرُهُمْ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَلَا يَخْرُجُ بِهِمْ إِلَى غَزْوٍ، وَرُوِيَ أَنَّهُ اسْتَقْرَضَ مِنْ ثَلَاثَةِ نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ: مِنْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ خَمْسِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَمِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ أَرْبَعِينَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَمِنْ حُوَيْطِبِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى أَرْبَعِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَأَقْرَضَوْهُ، فَكَانَتْ ثَلَاثِينَ وَمِائَةَ أَلْفٍ، فَقَسَمَهَا بَيْنَ أَصْحَابِهِ مِنْ أَهْلِ الضُّعْفِ[١٦]، وَرُوِيَ أَنَّهُ اسْتَقْرَضَ مِنْ رَجُلٍ تَمْرًا، فَلَمْ يُقْرِضْهُ، وَقَالَ: «لَوْ كَانَ هَذَا نَبِيًّا لَمْ يَسْتَقْرِضْ»[١٧]!
الشاهد ٥
وَرَوَى أَبُو عُبَيْدٍ [ت٢٢٤هـ] فِي «الْأَمْوَالِ»[١٨]، قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي زِيَادُ بْنُ سَعْدٍ، أَنَّ ابْنَ شِهَابٍ أَخْبَرَهُ، أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبٍ أَخْبَرَهُ فِي رِجَالٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَنَّ عَامِرَ بْنَ مَالِكٍ -مُلَاعِبَ الْأَسِنَّةِ- قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُشْرِكٌ، فَعَرَضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ فَأَبَى، فَأَهْدَى إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي لَا أَقْبَلُ هَدِيَّةَ مُشْرِكٍ».