الحديث ٣٦
«حُسْنُ مُرَاجَعَةِ الْإِمَامِ إِذَا تَشَابَهَ قَوْلُهُ حَتَّى يُبَيِّنَهُ»
رَوَى الْبُخَارِيُّ [ت٢٥٦هـ] فِي «صَحِيحِهِ»[١]، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا نَافِعُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ:
أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ لَا تَسْمَعُ شَيْئًا لَا تَعْرِفُهُ إِلَّا رَاجَعَتْ فِيهِ حَتَّى تَعْرِفَهُ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ حُوسِبَ -يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ- عُذِّبَ»، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: أَوَ لَيْسَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا﴾[٢]؟! فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا ذَلِكِ الْعَرْضُ، وَلَكِنْ مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ يَهْلِكْ».
ملاحظة
قَالَ الْمَنْصُورُ حَفِظَهُ اللَّهُ تَعَالَى: هَذَا حَدِيثٌ ثَابِتٌ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ؛ فَقَدْ رَوَاهُ عَنْهُ نَافِعٌ، وَأَيُّوبُ، وَابْنُ جُرَيْجٍ، وَعُثْمَانُ بْنُ الْأَسْوَدِ، وَصَالِحُ بْنُ رُسْتَمَ، وَبَكَّارُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ، وَعَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ وَرْدٍ، وَالْحَرِيشُ بْنُ الْخِرِّيتِ، وَحَمَّادُ بْنُ يَحْيَى السُّلَمِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمٍ الْمَكِّيُّ، وَحَاتِمُ بْنُ أَبِي صَغِيرَةَ، وَرَبَاحُ بْنُ أَبِي مَعْرُوفٍ، وَحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَأَةَ، وَلَمْ يَنْفَرِدْ بِهِ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، بَلْ تَابَعَهُ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَعَبَّادُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَصَفْوَانُ بْنُ سُلَيْمٍ، وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ، وَحُذَيْفَةَ، وَأَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْبَاقِرِ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى حُسْنِ مُرَاجَعَةِ الْإِمَامِ إِذَا تَشَابَهَ قَوْلُهُ حَتَّى يُبَيِّنَهُ، كَمَا بَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ لِعَائِشَةَ أَنَّ مُرَادَهُ بِمَنْ حُوسِبَ مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ، وَذَلِكَ هُوَ الْمُرَادُ بِـ«سُوءِ الْحِسَابِ» وَ«الْحِسَابِ الشَّدِيدِ» فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ﴾[٣]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ ۚ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾[٤]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا﴾[٥]، وَلَمْ يَكُنْ كُلُّ مُرَاجَعَةِ عَائِشَةَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ؛ فَقَدْ كَانَتْ تُرَاجِعُهُ بِمَا يَكْرَهُهُ، وَذَلِكَ فِي غَيْرِ الْعِلْمِ؛ كَمَا رُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ اسْتَأْذَنَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا، فَسَمِعَ صَوْتَ عَائِشَةَ عَالِيًا، وَهِيَ تَقُولُ: «وَاللَّهِ لَقَدْ عَرَفْتُ أَنَّ عَلِيًّا أَحَبُّ إِلَيْكَ مِنْ أَبِي»، مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ، فَأَهْوَى إِلَيْهَا لِيَلْطِمَهَا، وَقَالَ: «يَا ابْنَةَ فُلَانَةَ! لَا أَسْمَعُكِ تَرْفَعِينَ صَوْتَكِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ»[٦]، وَلِذَلِكَ كَانَ عُمَرُ يَنْهَى حَفْصَةَ أَنْ تُرَاجِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ بِمِثْلِ مَا تُرَاجِعُهُ بِهِ عَائِشَةُ![٧]
شاهد
وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ [ت٢٣٥هـ] فِي «مُسْنَدِهِ»[٨]، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ، عَنِ ابْنِ يَعْقُوبَ الزَّمْعِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَتْنِي عَمَّتِي قُرَيْبَةُ بِنْتُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبِ بْنِ زَمْعَةَ، عَنْ أُمِّهَا كَرِيمَةَ بِنْتِ الْمِقْدَادِ، عَنْ ضُبَاعَةَ بِنْتِ الزُّبَيْرِ -وَكَانَتْ تَحْتَ الْمِقْدَادِ-، عَنِ الْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ، قَالَ: قُلْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: شَيْءٌ سَمِعْتُهُ مِنْكَ شَكَكْتُ فِيهِ، قَالَ: «إِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي الْأَمْرِ فَلْيَسْأَلْنِي عَنْهُ»، قَالَ: قَوْلُكَ فِي أَزْوَاجِكَ: «إِنِّي لَأَرْجُو لَهُنَّ مِنْ بَعْدِي الصِّدِّيقِينَ»، قَالَ: «وَمَنْ تَعُدُّونَ الصِّدِّيقِينَ؟»، قَالَ: قُلْتُ: أَوْلَادَنَا الَّذِينَ يَهْلِكُونَ صِغَارًا، فَقَالَ: «لَا، وَلَكِنَّ الصِّدِّيقِينَ هُمُ الْمُتَصَدِّقُونَ».
ملاحظة
قَالَ الْمَنْصُورُ حَفِظَهُ اللَّهُ تَعَالَى: كَانَ عَلِيٌّ مِنَ الصِّدِّيقِينَ الَّذِينَ يَرْجُوهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ لِأَزْوَاجِهِ مِنْ بَعْدِهِ؛ كَمَا رُوِيَ أَنَّهُ ذَكَرَ خُرُوجَ بَعْضِهِنَّ، فَضَحِكَتْ عَائِشَةُ، فَقَالَ لَهَا: «انْظُرِي يَا حُمَيْرَاءُ أَنْ لَا تَكُونِي أَنْتِ»، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى عَلِيٍّ فَقَالَ: «إِنْ وَلِيتَ مِنْ أَمْرِهَا شَيْئًا فَارْفُقْ بِهَا»[٩]، فَوَلِيَ عَلِيٌّ أَمْرَهَا يَوْمَ الْجَمَلِ، فَرَفِقَ بِهَا، وَقَوْلُهُ: «إِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي الْأَمْرِ فَلْيَسْأَلْنِي عَنْهُ»، هُوَ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الْإِيمَانِ، وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَبِيتَ شَاكًّا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى السُّؤَالِ[١٠].