الحديث ٢٨
حسن سؤال الإمام عن الفرق المهمّة
رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الطُّوسِيُّ [ت٤٦٠هـ] فِي «أَمَالِيهِ»[١]، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ بَابَوَيْهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الْعَطَّارُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَرْقِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ خَلَفِ بْنِ حَمَّادٍ الْأَزْدِيِّ، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الْعَبْدِيِّ -يَعْنِي سَعِيدَ بْنَ أَبِي كَعْبٍ-، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ عَبَايَةِ بْنِ رِبْعِيٍّ، قَالَ:
كَانَ عَلِيٌّ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَثِيرًا مَا يَقُولُ: «سَلُونِي قَبْلَ أَنْ تَفْقِدُونِي، فَوَاللَّهِ مَا مِنْ أَرْضٍ مُخْصِبَةٍ وَلَا مُجْدِبَةٍ، وَلَا فِئَةٍ تُضِلُّ مِائَةً أَوْ تَهْدِي مِائَةً، إِلَّا وَأَنَا أَعْلَمُ قَائِدَهَا وَسَائِقَهَا وَنَاعِقَهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ».
ملاحظة
قَالَ الْمَنْصُورُ حَفِظَهُ اللَّهُ تَعَالَى: عَبَايَةُ بْنُ رِبْعِيٍّ، وَيُقَالُ: ابْنُ رَدَّادٍ، مِنْ ثِقَاتِ الشِّيعَةِ، ذَكَرَهُ الْبَرْقِيُّ [ت٢٧٤هـ] فِي خَوَاصِّ أَصْحَابِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ السَّلَامُ[٢]، وَقَالَ الْأَعْمَشُ: «قُلْتُ لِمُوسَى بْنِ طَرِيفٍ: مَا كَانَ عَبَايَةُ عِنْدَكُمْ؟ فَذَكَرَ مِنْ فَضْلِهِ وَصَلَاتِهِ وَصِيَامِهِ وَصِدْقِهِ»[٣]، وَذَكَرَهُ ابْنُ سَعْدٍ [ت٢٣٠هـ] فِي الطَّبَقَةِ الْأُولَى مِنَ التَّابِعِينَ، وَقَالَ: «رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَبَرَكَاتُهُ»[٤]، وَإِنَّمَا نَقَمَ عَلَيْهِ الْجُهَّالُ رِوَايَتَهُ فِي عَلِيٍّ أَنَّهُ قَسِيمُ النَّارِ[٥]، وَلَوْ كَانَ عِنْدَهُمْ عِلْمٌ لَمْ يَنْقِمُوهَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا تَعْنِي أَنَّ مَنْ وَالَاهُ فِي الْجَنَّةِ، وَمَنْ عَادَاهُ فِي النَّارِ، وَهَذَا حَقٌّ لَا رَيْبَ فِيهِ؛ كَمَا رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: «كُنَّا عِنْدَ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، مَا تَقُولُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الَّذِي يُرْوَى أَنَّ عَلِيًّا قَالَ: <أَنَا قَسِيمُ النَّارِ>؟ فَقَالَ أَحْمَدُ: وَمَا تُنْكِرُونَ مِنْ ذَا؟! أَلَيْسَ رُوِّينَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَلِيٍّ: <لَا يُحِبُّكَ إِلَّا مُؤْمِنٌ، وَلَا يُبْغِضُكَ إِلَّا مُنَافِقٌ>؟! قُلْنَا: بَلَى، قَالَ: فَأَيْنَ الْمُؤْمِنُ؟ قُلْنَا: فِي الْجَنَّةِ، قَالَ: فَأَيْنَ الْمُنَافِقُ؟ قُلْنَا: فِي النَّارِ، قَالَ: فَعَلِيٌّ قَسِيمُ النَّارِ»[٦]، وَكَذَلِكَ خَلِيفَةُ اللَّهِ فِي كُلِّ زَمَانٍ، فَإِنَّ مَنْ كَانَ مَعَهُ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ، وَمَنْ كَانَ مَعَ عَدُوِّهِ فَهُوَ فِي النَّارِ، ﴿سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ ۖ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا﴾[٧]، وَأَمَّا أَبُو الْحَسَنِ الْعَبْدِيُّ فَهُوَ مَقْبُولٌ عِنْدَهُمْ، ذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانٍ [ت٣٥٤هـ] فِي «الثِّقَاتِ»[٨]، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ [ت٢٧٧هـ]: «شَيْخٌ»[٩]، وَلَمْ يَنْفَرِدْ بِهَذَا الْحَدِيثِ، بَلْ تَابَعَهُ عِمْرَانُ بْنُ مِيثَمٍ:
شاهد
رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الصَّفَّارُ [ت٢٩٠هـ] فِي «بَصَائِرِ الدَّرَجَاتِ»، قَالَ: حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ مَعْرُوفٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ عِيسَى، عَنْ حَرِيزٍ[١٠]؛ وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَبَلَةَ، وَإِسْمَاعِيلَ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِي مَرْيَمَ عَبْدِ الْغَفَّارِ بْنِ الْقَاسِمِ[١١]؛ وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى، عَنْ صَفْوَانَ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ شُعَيْبٍ[١٢]، جَمِيعًا عَنْ عِمْرَانَ بْنِ مِيثَمٍ، عَنْ عَبَايَةِ بْنِ رِبْعِيٍّ، قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيًّا عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقُولُ: «سَلُونِي قَبْلَ أَنْ تَفْقِدُونِي، أَلَا تَسْأَلُونَ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْمَنَايَا وَالْبَلَايَا وَالْأَنْسَابِ؟!».
ملاحظة
قَالَ الْمَنْصُورُ حَفِظَهُ اللَّهُ تَعَالَى: لَقَدْ صَحَّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ [ت٩٤هـ] أَنَّهُ قَالَ: «مَا كَانَ فِي أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَحَدٌ يَقُولُ سَلُونِي غَيْرَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ»[١٣]، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ أَعْلَمَهُمْ، وَلِذَلِكَ كَانَ سَعِيدٌ يَقُولُ: «مَا كَانَ أَحَدٌ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَعْلَمَ مِنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ»، رَوَاهُ عَنْهُ دَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ[١٤]، وَقِيلَ لِعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ [ت١١٥هـ]: أَكَانَ فِي أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَحَدٌ أَعْلَمَ مِنْ عَلِيٍّ؟ فَقَالَ: «لَا وَاللَّهِ، مَا أَعْلَمُهُ»[١٥]؛ كَمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِفَاطِمَةَ: «زَوَّجْتُكِ أَكْثَرَهُمْ عِلْمًا»[١٦]، وَكَانَتْ عَائِشَةُ تَقُولُ: «عَلِيٌّ أَعْلَمُ النَّاسِ بِالسُّنَّةِ»[١٧]، وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: «مَا رَأَيْتُ أَعْلَمَ مِنْ عَلِيٍّ»[١٨]، وَيَقُولُ: «لَقَدْ أُعْطِيَ عَلِيٌّ تِسْعَةَ أَعْشَارِ الْعِلْمِ، وَايْمُ اللَّهِ لَقَدْ شَارَكَهُمْ فِي الْعُشْرِ الْعَاشِرِ»[١٩]، وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَرْجِعُ إِلَيْهِ فِيمَا أَشْكَلَ عَلَيْهِ، وَيَأْخُذُ بِقَوْلِهِ، وَيَقُولُ: «أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ مُعْضِلَةٍ لَيْسَ لَهَا أَبُو حَسَنٍ»[٢٠]، وَيَقُولُ: «لَا أَبْقَانِيَ اللَّهُ لِمُعْضِلَةٍ لَيْسَ لَهَا أَبُو حَسَنٍ»[٢١]، وَيَقُولُ: «لَوْلَا عَلِيٌّ لَهَلَكَ عُمَرُ»[٢٢]، وَكَانَ مُعَاوِيَةُ -مَعَ عَدَاوَتِهِ لَهُ- يَكْتُبُ فِيمَا يَنْزِلُ بِهِ لِيَسْأَلُوهُ لَهُ عَنْ ذَلِكَ[٢٣]، فَلَمَّا بَلَغَهُ قَتْلُهُ قَالَ: «ذَهَبَ الْعِلْمُ بِمَوْتِ ابْنِ أَبِي طَالِبٍ»، فَقَالَ لَهُ أَخُوهُ عُتْبَةُ: «لَا يَسْمَعْ هَذَا مِنْكَ أَهْلُ الشَّامِ»، فَقَالَ لَهُ: «دَعْنِي عَنْكَ»[٢٤]، وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ أَمْرِ دِينِهِ إِلَّا أَعْلَمَ النَّاسِ، وَمَنْ عَدَلَ إِلَى غَيْرِهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ؛ لِأَنَّهُ بَابُ الْعِلْمِ، وَلَيْسَ مِنَ الْبِرِّ أَنْ يُدْخَلَ الْبَيْتُ إِلَّا مِنْ بَابِهِ[٢٥]، وَلِذَلِكَ كَانَ عُمَرُ يَأْتِيهِ الرَّجُلُ يَسْأَلُهُ عَنْ شَيْءٍ، فَيَقُولُ لَهُ: «ائْتِ عَلِيًّا فَسَلْهُ»[٢٦]، وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى مُعَاوِيَةَ، فَسَأَلَهُ عَنْ مَسْأَلَةٍ، فَقَالَ: «سَلْ عَنْهَا عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، فَهُوَ أَعْلَمُ»، فَقَالَ: «جَوَابُكَ فِيهَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ جَوَابِ عَلِيٍّ»، فَقَالَ: «بِئْسَ مَا قُلْتَ، وَلُؤْمَ مَا جِئْتَ بِهِ، لَقَدْ كَرِهْتَ رَجُلًا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يَغُرُّهُ الْعِلْمَ غَرًّا[٢٧]، وَكَانَ عُمَرُ إِذَا أَشْكَلَ عَلَيْهِ شَيْءٌ يَأْخُذُ مِنْهُ»[٢٨]، وَكَذَلِكَ كَانَ أَبُو بَكْرٍ؛ كَمَا رُوِيَ أَنَّ قَوْمًا سَأَلُوهُ عَنْ بَعْضِ أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «الْحَدِيثُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ شَدِيدٌ، وَهَذَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، فَأْتُوا عَلِيًّا»[٢٩]، وَكَذَلِكَ كَانَ عُثْمَانُ؛ كَمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ عَنْ مُعْضِلِ، فَقَالَ: «إِنَّ هَذَا أَمْرٌ لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ، فَائْتِ عَلِيًّا»[٣٠]، وَكَذَلِكَ كَانَتْ عَائِشَةُ مَعَ عَدَاوَتِهَا لَهُ[٣١]، وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: «إِذَا جَاءَنَا ثِقَةٌ عَنْ عَلِيٍّ بِفُتْيَا لَا نَعْدُوهَا»[٣٢]، وَرُوِيَ أَنَّ الْحَجَّاجَ بْنَ يُوسُفَ -وَهُوَ أَشَدُّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِعَلِيٍّ- سَأَلَ الشَّعْبِيَّ عَنْ أَقَاوِيلِ الصَّحَابَةِ فِي مُعْضِلَةٍ، فَأَخْبَرَهُ بِأَقَاوِيلِهِمْ، فَأَعْجَبَهُ قَوْلُ عَلِيٍّ، فَقَالَ: «قَوْلُ مَنْ هَذَا؟» فَقَالَ: «قَوْلُ أَبِي تُرَابٍ!» فَنَظَرَ الْحَجَّاجُ، فَقَالَ: «إِنَّا لَمْ نَعِبْ عَلَى قَضَائِهِ» يَعْنِي عِلْمَهُ[٣٣]، وَلِذَلِكَ كَانَ أَبُو جَعْفَرٍ يَقُولُ: «لَيْسَ أَحَدٌ عِنْدَهُ عِلْمُ شَيْءٍ إِلَّا خَرَجَ مِنْ عِنْدِ عَلِيٍّ، وَإِذَا تَشَعَّبَتْ بِهِمُ الْأُمُورُ كَانَ الْخَطَأُ مِنْهُمْ وَالصَّوَابُ مِنْ عَلِيٍّ»[٣٤]، وَهَذَا عِنْدَنَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ أَحَقَّهُمْ بِالْإِمَامَةِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: ﴿أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى ۖ فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾[٣٥]، وَقَدْ بَلَغَنَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَا وَلَّتْ أُمَّةٌ أَمْرَهَا رَجُلًا قَطُّ وَفِيهِمْ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ، إِلَّا لَمْ يَزَلْ أَمْرُهُمْ يَذْهَبُ سَفَالًا، حَتَّى يَرْجِعُوا إِلَى مَا تَرَكُوا»[٣٦]، وَقَدْ رَأَيْنَا ذَهَابَ أَمْرِ الْأُمَّةِ سَفَالًا إِلَى هَذَا الْيَوْمِ؛ كَمَا رُوِيَ عَنْ قَيْسِ بْنِ الرَّبِيعِ، قَالَ: «كُنَّا عِنْدَ الْأَعْمَشِ، فَتَذَاكَرْنَا الْإِخْتِلَافَ، فَقَالَ: أَنَا أَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ وَقَعَ الْإِخْتِلَافُ، قُلْتُ: مِنْ أَيْنَ وَقَعَ؟ قَالَ: لَيْسَ هَذَا مَوْضِعُ ذِكْرِ ذَلِكَ، قَالَ: فَأَتَيْتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَخَلَوْتُ بِهِ، وَقُلْتُ: ذَكَرْنَا الْإِخْتِلَافَ الْوَاقِعَ، وَذَكَرْتَ أَنَّكَ تَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ وَقَعَ، فَسَأَلْتُكَ عَنْ ذَلِكَ، فَقُلْتَ: لَيْسَ هَذَا مَوْضِعُ ذَلِكَ، وَقَدْ جِئْتُكَ خَالِيًا، فَأَخْبِرْنِي مِنْ أَيْنَ وَقَعَ الْإِخْتِلَافُ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَلِيَ أَمْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ مَنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ عِلْمٌ، فَسُئِلَ، فَسَأَلَ النَّاسَ، فَاخْتَلَفُوا، فَلَوْ رَدُّوا هَذَا الْأَمْرَ فِي مَوْضِعِهِ مَا كَانَ اخْتِلَافٌ، قُلْتُ: إِلَى مَنْ؟ قَالَ: إِلَى مَنْ كَانَ يُسْئَلُ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، وَمَا سَأَلَ أَحَدًا غَيْرَهُ، إِلَى مَنْ كَانَ يَقُولُ: <سَلُونِي قَبْلَ أَنْ تَفْقِدُونِي، وَإِنَّكُمْ لَنْ تَجِدُوا أَعْلَمَ بِمَا بَيْنَ اللَّوْحَيْنِ مِنِّي>، إِلَى مَنْ كَانَ يَضْرِبُ بِيَدِهِ عَلَى صَدْرِهِ، وَيَقُولُ: <إِنَّ هَاهُنَا لَعِلْمًا جَمًّا لَمْ أَجِدْ لَهُ حَمَلَةً>»، يَعْنِي عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ[٣٧]، وَرُوِيَ عَنْ مَنْصُورِ بْنِ حَازِمٍ، قَالَ: «قُلْتُ لِجَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ: إِنِّي قُلْتُ لِلنَّاسِ: تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ كَانَ هُوَ الْحُجَّةَ مِنَ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قُلْتُ: فَحِينَ مَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ مَنْ كَانَ الْحُجَّةَ عَلَى خَلْقِهِ؟ فَقَالُوا: الْقُرْآنُ، فَنَظَرْتُ فِي الْقُرْآنِ، فَإِذَا هُوَ يُخَاصِمُ بِهِ الْمُرْجِئُ وَالْقَدَرِيُّ وَالزِّنْدِيقُ الَّذِي لَا يُؤْمِنُ بِهِ حَتَّى يَغْلِبَ الرِّجَالَ بِخُصُومَتِهِ! فَعَرَفْتُ أَنَّ الْقُرْآنَ لَا يَكُونُ حُجَّةً إِلَّا بِقَيِّمٍ -أَيْ مُبَيِّنٍ لَهُ-، فَمَا قَالَ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ كَانَ حَقًّا، فَقُلْتُ لَهُمْ: مَنْ قَيِّمُ الْقُرْآنِ؟ فَقَالُوا: ابْنُ مَسْعُودٍ قَدْ كَانَ يَعْلَمُ، وَعُمَرُ يَعْلَمُ، وَحُذَيْفَةُ يَعْلَمُ، قُلْتُ: كُلَّهُ؟ قَالُوا: لَا، فَلَمْ أَجِدْ أَحَدًا يُقَالُ أَنَّهُ يَعْرِفُ ذَلِكَ كُلَّهُ إِلَّا عَلِيًّا، وَإِذَا كَانَ الشَّيْءُ بَيْنَ الْقَوْمِ، فَقَالَ هَذَا: لَا أَدْرِي، وَقَالَ هَذَا: لَا أَدْرِي، وَقَالَ هَذَا: لَا أَدْرِي، وَقَالَ هَذَا: أَنَا أَدْرِي، فَأَشْهَدُ أَنَّ عَلِيًّا كَانَ قَيِّمَ الْقُرْآنِ، وَكَانَتْ طَاعَتُهُ مُفْتَرَضَةً، وَكَانَ الْحُجَّةَ عَلَى النَّاسِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّ مَا قَالَ فِي الْقُرْآنِ فَهُوَ حَقٌّ، فَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ: رَحِمَكَ اللَّهُ»[٣٨].