الحديث ٣١
«إِنَّ لِلَّهِ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً، وَقَدْ لَا يُرَى»
رَوَى مَعْمَرُ بْنُ رَاشِدٍ [ت١٥٣هـ] فِي «الْجَامِعِ»[١]، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ نَصْرِ بْنِ عَاصِمٍ اللَّيْثِيِّ، عَنْ خَالِدِ بْنِ خَالِدٍ الْيَشْكُرِيِّ، قَالَ: خَرَجْتُ زَمَنَ فُتِحَتْ تُسْتَرُ[٢] حَتَّى قَدِمْتُ الْكُوفَةَ، فَدَخَلْتُ الْمَسْجِدَ، فَإِذَا أَنَا بِحَلْقَةٍ فِيهَا رَجُلٌ صَدْعٌ مِنَ الرِّجَالِ[٣]، حَسَنُ الثَّغْرِ[٤]، يُعْرَفُ فِيهِ أَنَّهُ مِنْ رِجَالِ الْحِجَازِ، قَالَ: فَقُلْتُ: مَنِ الرَّجُلُ؟ قَالَ الْقَوْمُ: أَوَ مَا تَعْرِفُهُ؟! قُلْتُ: لَا، قَالُوا: هَذَا حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: فَقَعَدْتُ، وَحَدَّثَ الْقَوْمَ، فَقَالَ:
إِنَّ النَّاسَ كَانُوا يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْخَيْرِ، وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ الْقَوْمُ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُمْ: إِنِّي سَأُحَدِّثُكُمْ مَا أَنْكَرْتُمْ مِنْ ذَلِكَ، جَاءَ الْإِسْلَامُ حِينَ جَاءَ، فَجَاءَ أَمْرٌ لَيْسَ كَأَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَكُنْتُ قَدْ أُعْطِيتُ فِي الْقُرْآنِ فَهْمًا، فَكَانَ رِجَالٌ يَجِيئُونَ فَيَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْخَيْرِ، وَأَنَا أَسْأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيَكُونُ بَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ شَرٌّ كَمَا كَانَ قَبْلَهُ؟ قَالَ: «نَعَمْ»، قَالَ: قُلْتُ: فَمَا الْعِصْمَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «السَّيْفُ»، قُلْتُ: وَهَلْ بَعْدَ السَّيْفِ بَقِيَّةٌ؟ قَالَ: «نَعَمْ، تَكُونُ إِمَارَةٌ عَلَى أَقْذَاءٍ[٥]، وَهُدْنَةٌ عَلَى دَخَنٍ[٦]»، قَالَ: قُلْتُ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: «ثُمَّ يَنْشَأُ دُعَاةُ الضَّلَالَةِ، فَإِنْ كَانَ لِلَّهِ فِي الْأَرْضِ يَوْمَئِذٍ خَلِيفَةٌ جَلَدَ ظَهْرَكَ وَأَخَذَ مَالَكَ فَالْزَمْهُ، وَإِلَّا فَمُتْ وَأَنْتَ عَاضٌّ عَلَى جِذْلِ شَجَرَةٍ[٧]»، قَالَ: قُلْتُ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: «ثُمَّ يَخْرُجُ الدَّجَّالُ بَعْدَ ذَلِكَ، مَعَهُ نَهَرٌ وَنَارٌ، مَنْ وَقَعَ فِي نَارِهِ وَجَبَ أَجْرُهُ وَحُطَّ وِزْرُهُ، وَمَنْ وَقَعَ فِي نَهَرِهِ وَجَبَ وِزْرُهُ وَحُطَّ أَجْرُهُ»، قَالَ: قُلْتُ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: «يُنْتَجُ الْمُهْرُ[٨]، فَلَا يُرْكَبُ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ».
ملاحظة
قَالَ الْمَنْصُورُ حَفِظَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «جَلَدَ ظَهْرَكَ» يَعْنِي فِي الْحَدِّ، وَقَوْلُهُ: «أَخَذَ مَالَكَ» يَعْنِي فِي الزَّكَاةِ؛ فَإِنَّ خَلِيفَةَ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ لَا يَظْلِمُ، وَقَوْلُهُ: «وَإِلَّا» يَعْنِي إِنْ لَمْ يَكُنْ لِلَّهِ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةٌ أَقَامَ الْحَدَّ وَأَخَذَ الزَّكَاةَ، وَذَلِكَ إِذَا كَانَ غَيْرَ ظَاهِرٍ فِي الْأَرْضِ، وَقَدْ رُوِيَ أَبْيَنَ مِنْ هَذَا:
الشاهد ١
رَوَى أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ [ت٢٤١هـ] فِي «مُسْنَدِهِ»[٩]، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ، قَالَ: سَمِعْتُ صَخْرًا يُحَدِّثُ، عَنْ سُبَيْعٍ، قَالَ: أَرْسَلُونِي مِنْ مَاهَ[١٠] إِلَى الْكُوفَةِ أَشْتَرِي الدَّوَابَّ، فَأَتَيْنَا الْكُنَاسَةَ، فَإِذَا رَجُلٌ عَلَيْهِ جَمْعٌ، قَالَ: فَأَمَّا صَاحِبِي فَانْطَلَقَ إِلَى الدَّوَابِّ، وَأَمَّا أَنَا فَأَتَيْتُهُ، فَإِذَا هُوَ حُذَيْفَةُ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُونَهُ عَنِ الْخَيْرِ، وَأَسْأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ بَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ شَرٌّ كَمَا كَانَ قَبْلَهُ شَرٌّ؟ قَالَ: «نَعَمْ»، قُلْتُ: فَمَا الْعِصْمَةُ مِنْهُ؟ قَالَ: «السَّيْفُ»، قُلْتُ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: «ثُمَّ تَكُونُ هُدْنَةٌ عَلَى دَخَنٍ»، قُلْتُ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: «ثُمَّ تَكُونُ دُعَاةُ الضَّلَالَةِ، فَإِنْ رَأَيْتَ يَوْمَئِذٍ خَلِيفَةَ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ فَالْزَمْهُ، وَإِنْ نَهَكَ جِسْمَكَ وَأَخَذَ مَالَكَ، فَإِنْ لَمْ تَرَهُ فَاهْرَبْ فِي الْأَرْضِ، وَلَوْ أَنْ تَمُوتَ وَأَنْتَ عَاضٌّ بِجِذْلِ شَجَرَةٍ»، قُلْتُ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: «ثُمَّ يَخْرُجُ الدَّجَّالُ»، قُلْتُ: فَبِمَ يَجِيءُ بِهِ مَعَهُ؟ قَالَ: «بِنَهْرٍ وَنَارٍ، فَمَنْ دَخَلَ نَهْرَهُ حُطَّ أَجْرُهُ وَوَجَبَ وِزْرُهُ، وَمَنْ دَخَلَ نَارَهُ وَجَبَ أَجْرُهُ وَحُطَّ وِزْرُهُ»، قُلْتُ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: «لَوْ أَنْتَجْتَ فَرَسًا لَمْ تَرْكَبْ فَلْوَهَا[١١] حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ».
ملاحظة
قَالَ الْمَنْصُورُ حَفِظَهُ اللَّهُ تَعَالَى: خَالِدُ بْنُ خَالِدٍ، وَيُقَالُ: سُبَيْعُ بْنُ خَالِدٍ الْيَشْكُرِيُّ وُثِّقَ، وَلَمْ يَنْفَرِدْ بِهَذَا الْحَدِيثِ، بَلْ تَابَعَهُ أَبُو إِدْرِيسَ، وَأَبُو سَلَّامٍ، وَمَكْحُولٌ، وَزَيْدُ بْنُ وَهْبٍ، وَحَسَّانُ بْنُ عَطِيَّةَ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ قُرْطٍ، وَيُونُسُ بْنُ مَيْسَرَةَ، وَالسَّفْرُ بْنُ نُسَيْرٍ، وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلَّهِ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً، وَقَدْ لَا يُرَى، فَإِذَا وَقَعَ ذَلِكَ وَجَبَ اعْتِزَالُ الْفِرَقِ كُلِّهَا حَتَّى يُظْهَرَ؛ كَمَا جَاءَ فِي رِوَايَةٍ: «فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا، وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ بِأَصْلِ شَجَرَةٍ، حَتَّى يُدْرِكَكَ الْمَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ»[١٢]، وَالْفِرَقُ أَصْحَابُ الْمُلْكِ وَطَالِبُوهُ؛ فَلَا يَجُوزُ اتِّبَاعُ أَحَدِهِمْ حِينَ لَا يُرَى خَلِيفَةُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ؛ كَمَا جَاءَ فِي رِوَايَةٍ: «فَإِنْ تَمُتْ وَأَنْتَ عَاضٌّ عَلَى جِذْلٍ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَتَّبِعَ أَحَدًا مِنْهُمْ»[١٣]، وَأَمَّا قَوْلُ حُذَيْفَةَ: «كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُونَهُ عَنِ الْخَيْرِ، وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ»، فَقَدْ رَوَاهُ مَعَ هَؤُلَاءِ جُنْدُبٌ، وَأَبُو الْبَخْتَرِيِّ، وَقَيْسُ بْنُ أَبِي حَازِمٍ، وَقَبِيصَةُ بْنُ ذُؤَيْبٍ.
الشاهد ٢
وَرَوَى أَبُو نُعَيْمٍ [ت٤٣٠هـ] فِي «حِلْيَةِ الْأَوْلِيَاءِ»[١٤]، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ شِيرَوَيْهِ؛ وَحَدَّثَنَا أَبُو عَمْرِو بْنُ حَمْدَانَ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ، قَالَا: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا بَكَّارُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنِي خَلَّادُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ أَبَا الطُّفَيْلِ حَدَّثَهُ، أَنَّهُ سَمِعَ حُذَيْفَةَ يَقُولُ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَلَا تَسْأَلُونِي؟ فَإِنَّ النَّاسَ كَانُوا يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْخَيْرِ، وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ، أَفَلَا تَسْأَلُونَ عَنْ مَيِّتِ الْأَحْيَاءِ؟» فَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، فَدَعَا النَّاسَ مِنَ الضَّلَالَةِ إِلَى الْهُدَى، وَمِنَ الْكُفْرِ إِلَى الْإِيمَانِ، فَاسْتَجَابَ لَهُ مَنِ اسْتَجَابَ، فَحَيَى بِالْحَقِّ مَنْ كَانَ مَيِّتًا، وَمَاتَ بِالْبَاطِلِ مَنْ كَانَ حَيًّا، ثُمَّ ذَهَبَتِ النُّبُوَّةُ، فَكَانَتِ الْخِلَافَةُ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ، ثُمَّ يَكُونُ مُلْكًا عَضُوضًا، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُنْكِرُ بِقَلْبِهِ وَيَدِهِ وَلِسَانِهِ، وَالْحَقَّ اسْتَكْمَلَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُنْكِرُ بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ كَافًّا يَدَهُ، وَشُعْبَةً مِنَ الْحَقِّ تَرَكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُنْكِرُ بِقَلْبِهِ كَافًّا يَدَهُ وَلِسَانَهُ، وَشُعْبَتَيْنِ مِنَ الْحَقِّ تَرَكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُنْكِرُ بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ، فَذَلِكَ مَيِّتُ الْأَحْيَاءِ».