الحديث ٢٥
«لِلْخَلَفِ مِثْلُ مَا لِلسَّلَفِ مِنْ إِمَامٍ يَهْدِيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ، فَيُغْنِيهِمْ بِذَلِكَ عَنِ الْخَرْصِ وَاتِّبَاعِ الظَّنِّ»
رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْكُلَيْنِيُّ [ت٣٢٩هـ] فِي «الْكَافِي»[١]، قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ هَاشِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ فَضَّالٍ، عَنْ حَفْصٍ الْمُؤَذِّنِ؛ وَحَدَّثَنِي عَلِيٌّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ بَزِيعٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَابِرٍ، جَمِيعًا عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ -يَعْنِي جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ الصَّادِقَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَنَّهُ كَتَبَ بِهَذِهِ الرِّسَالَةِ إِلَى أَصْحَابِهِ، وَأَمَرَهُمْ بِمُدَارَسَتِهَا وَالنَّظَرِ فِيهَا وَتَعَاهُدِهَا وَالْعَمَلِ بِهَا، فَكَانُوا يَضَعُونَهَا فِي مَسَاجِدِ بُيُوتِهِمْ، فَإِذَا فَرَغُوا مِنَ الصَّلَاةِ نَظَرُوا فِيهَا؛ وَحَدَّثَنِي عَلِيٌّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مَالِكٍ الْكُوفِيِّ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ الرَّبِيعِ الصَّحَّافِ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مَخْلَدٍ السَّرَّاجِ، قَالَ: خَرَجَتْ هَذِهِ الرِّسَالَةُ مِنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى أَصْحَابِهِ:
«اعْلَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ وَلَا مِنْ أَمْرِهِ أَنْ يَأْخُذَ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ فِي دِينِهِ بِهَوًى وَلَا رَأْيٍ وَلَا مَقَايِيسَ. قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ الْقُرْآنَ، وَجَعَلَ فِيهِ تِبْيَانَ كُلِّ شَيْءٍ، وَجَعَلَ لِلْقُرْآنِ وَلِتَعَلُّمِ الْقُرْآنِ أَهْلًا. لَا يَسَعُ أَهْلَ عِلْمِ الْقُرْآنِ الَّذِينَ آتَاهُمُ اللَّهُ عِلْمَهُ أَنْ يَأْخُذُوا فِيهِ بِهَوًى وَلَا رَأْيٍ وَلَا مَقَايِيسَ، أَغْنَاهُمُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ بِمَا آتَاهُمْ مِنْ عِلْمِهِ، وَخَصَّهُمْ بِهِ، وَوَضَعَهُ عِنْدَهُمْ، كَرَامَةً مِنَ اللَّهِ أَكْرَمَهُمْ بِهَا، وَهُمْ أَهْلُ الذِّكْرِ الَّذِينَ أَمَرَ اللَّهُ هَذِهِ الْأُمَّةَ بِسُؤَالِهِمْ، وَهُمُ الَّذِينَ مَنْ سَأَلَهُمْ وَقَدْ سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنْ يُصَدِّقَهُمْ وَيَتَّبِعَ أَثَرَهُمْ، أَرْشَدُوهُ وَأَعْطَوْهُ مِنْ عِلْمِ الْقُرْآنِ مَا يَهْتَدِي بِهِ إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَإِلَى جَمِيعِ سُبُلِ الْحَقِّ، وَهُمُ الَّذِينَ لَا يَرْغَبُ عَنْهُمْ وَعَنْ مَسْأَلَتِهِمْ وَعَنْ عِلْمِهِمُ الَّذِي أَكْرَمَهُمُ اللَّهُ بِهِ وَجَعَلَهُ عِنْدَهُمْ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ فِي عِلْمِ اللَّهِ الشَّقَاءُ فِي أَصْلِ الْخَلْقِ، فَأُولَئِكَ الَّذِينَ يَرْغَبُونَ عَنْ سُؤَالِ أَهْلِ الذِّكْرِ وَالَّذِينَ آتَاهُمُ اللَّهُ عِلْمَ الْقُرْآنِ وَوَضَعَهُ عِنْدَهُمْ وَأَمَرَ بِسُؤَالِهِمْ، وَأُولَئِكَ الَّذِينَ يَأْخُذُونَ بِأَهْوَائِهِمْ وَآرَائِهِمْ وَمَقَايِيسِهِمْ حَتَّى دَخَلَهُمُ الشَّيْطَانُ، لِأَنَّهُمْ جَعَلُوا أَهْلَ الْإِيمَانِ فِي عِلْمِ الْقُرْآنِ عِنْدَ اللَّهِ كَافِرِينَ، وَجَعَلُوا أَهْلَ الضَّلَالَةِ فِي عِلْمِ الْقُرْآنِ عِنْدَ اللَّهِ مُؤْمِنِينَ، وَحَتَّى جَعَلُوا مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ حَرَامًا، وَجَعَلُوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ حَلَالًا، فَذَلِكَ أَصْلُ ثَمَرَةِ أَهْوَائِهِمْ، وَقَدْ عَهِدَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ مَوْتِهِ، فَقَالُوا: <نَحْنُ بَعْدَ مَا قَبَضَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ رَسُولَهُ، يَسَعُنَا أَنْ نَأْخُذَ بِمَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ رَأْيُ النَّاسِ، بَعْدَ مَا قَبَضَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ رَسُولَهُ، وَبَعْدَ عَهْدِهِ الَّذِي عَهِدَهُ إِلَيْنَا وَأَمَرَنَا بِهِ>، خِلَافًا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، فَمَا أَحَدٌ أَجْرَأَ عَلَى اللَّهِ وَلَا أَبْيَنَ ضَلَالَةً مِمَّنْ أَخَذَ بِذَلِكَ، وَزَعَمَ أَنَّ ذَلِكَ يَسَعُهُ. وَاللَّهِ إِنَّ لِلَّهِ عَلَى خَلْقِهِ أَنْ يُطِيعُوهُ وَيَتَّبِعُوا أَمْرَهُ فِي حَيَاةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وَبَعْدَ مَوْتِهِ. هَلْ يَسْتَطِيعُ أُولَئِكَ أَعْدَاءُ اللَّهِ أَنْ يَزْعُمُوا أَنَّ أَحَدًا مِمَّنْ أَسْلَمَ مَعَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ بِقَوْلِهِ وَرَأْيِهِ وَمَقَايِيسِهِ؟! فَإِنْ قَالَ: نَعَمْ، فَقَدْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا، وَإِنْ قَالَ: لَا، لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ أَنْ يَأْخُذَ بِرَأْيِهِ وَهَوَاهُ وَمَقَايِيسِهِ، فَقَدْ أَقَرَّ بِالْحُجَّةِ عَلَى نَفْسِهِ، وَهُوَ مِمَّنْ يَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ يُطَاعُ وَيُتَّبَعُ أَمْرُهُ بَعْدَ قَبْضِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ وَقَوْلُهُ الْحَقُّ: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۚ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ ۚ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا ۗ وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ﴾[٢]، وَذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُطَاعُ وَيُتَّبَعُ أَمْرُهُ فِي حَيَاةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وَبَعْدَ قَبْضِ اللَّهِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، وَكَمَا لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ مَعَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَأْخُذَ بِهَوَاهُ وَلَا رَأْيِهِ وَلَا مَقَايِيسِهِ خِلَافًا لِأَمْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، فَكَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ بَعْدَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَأْخُذَ بِهَوَاهُ وَلَا رَأْيِهِ وَلَا مَقَايِيسِهِ».
ملاحظة
قَالَ الْمَنْصُورُ حَفِظَهُ اللَّهُ تَعَالَى: إِبْرَاهِيمُ بْنُ هَاشِمٍ مُعْتَمَدٌ عِنْدَهُمْ، وَالْأَسَانِيدُ الثَّلَاثَةُ يُقَوِّي بَعْضُهَا بَعْضًا، وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى اشْتِرَاكِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ فِي التَّكْلِيفِ بِطَاعَةِ اللَّهِ مِنْ دُونِ أَنْ يَأْخُذُوا بِأَهْوَائِهِمْ وَآرَائِهِمْ وَمَقَايِيسِهِمْ[٣]، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ فِي عَدْلِ اللَّهِ إِلَّا إِذَا كَانَ قَدْ جَعَلَ لِلْخَلَفِ مِثْلَ مَا جَعَلَ لِلسَّلَفِ مِنْ إِمَامٍ يَهْدِيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ، فَيُغْنِيهِمْ بِذَلِكَ عَنِ الْخَرْصِ وَاتِّبَاعِ الظَّنِّ؛ كَمَا قَالَ: ﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ ۖ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾[٤]، وَقَالَ: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾[٥]. فَلَا بُدَّ لِلْخَلَفِ مِنْ مَعْرِفَةِ إِمَامِ زَمَانِهِمْ وَسُؤَالِهِ وَطَاعَتِهِ، كَمَا كَانَ السَّلَفُ يَعْرِفُونَ إِمَامَ زَمَانِهِمْ وَيَسْأَلُونَهُ وَيُطِيعُونَهُ، وَكَانَ إِمَامَ زَمَانِ السَّلَفِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، وَإِمَامُ زَمَانِ الْخَلَفِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِهِ؛ كَمَا قَالَ: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾[٦]، وَقَالَ: ﴿قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ﴾[٧].