الحديث ٢٢
«الْإِمَامُ مُشْتَاقٌ إِلَى مَنْ كَانَ لِلْعِلْمِ أَهْلًا لِيُعَلِّمَهُ مِمَّا عَلَّمَهُ اللَّهُ»
رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ بَابَوَيْهِ [ت٣٨١هـ] فِي «كَمَالِ الدِّينِ وَتَمَامِ النِّعْمَةِ»[١]، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْوَلِيدِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الصَّفَّارِ، وَسَعْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ الْحِمْيَرِيِّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى، وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ هَاشِمٍ، جَمِيعًا عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي نَجْرَانَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ حُمَيْدٍ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ الثُّمَالِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُنْدُبٍ الْفَزَارِيِّ، عَنْ كُمَيْلِ بْنِ زِيَادٍ النَّخَعِيِّ، قَالَ:
أَخَذَ بِيَدِي أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَأَخْرَجَنِي إِلَى الْجَبَّانِ، فَلَمَّا أَصْحَرَ تَنَفَّسَ الصُّعَدَاءَ، ثُمَّ قَالَ: «يَا كُمَيْلَ بْنَ زِيَادٍ، إِنَّ هَذِهِ الْقُلُوبَ أَوْعِيَةٌ، فَخَيْرُهَا أَوْعَاهَا. فَاحْفَظْ عَنِّي مَا أَقُولُ لَكَ. النَّاسُ ثَلَاثَةٌ: فَعَالِمٌ رَبَّانِيٌّ، وَمُتَعَلِّمٌ عَلَى سَبِيلِ نَجَاةٍ، وَهَمَجٌ رَعَاعٌ، أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِقٍ، يَمِيلُونَ مَعَ كُلِّ رِيحٍ، لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِنُورِ الْعِلْمِ، وَلَمْ يَلْجَئُوا إِلَى رُكْنٍ وَثِيقٍ. يَا كُمَيْلُ، الْعِلْمُ خَيْرٌ مِنَ الْمَالِ، الْعِلْمُ يَحْرُسُكَ، وَأَنْتَ تَحْرُسُ الْمَالَ، وَالْمَالُ تَنْقُصُهُ النَّفَقَةُ، وَالْعِلْمُ يَزْكُوا عَلَى الْإِنْفَاقِ، وَصَنِيعُ الْمَالِ يَزُولُ بِزَوَالِهِ. يَا كُمَيْلَ بْنَ زِيَادٍ، مَعْرِفَةُ الْعِلْمِ دِينٌ يُدَانُ بِهِ، بِهِ يَكْسِبُ الْإِنْسَانُ الطَّاعَةَ فِي حَيَاتِهِ، وَجَمِيلَ الْأُحْدُوثَةِ بَعْدَ وَفَاتِهِ، وَالْعِلْمُ حَاكِمٌ، وَالْمَالُ مَحْكُومٌ عَلَيْهِ. يَا كُمَيْلُ، هَلَكَ خُزَّانُ الْأَمْوَالِ وَهُمْ أَحْيَاءٌ، وَالْعُلَمَاءُ بَاقُونَ مَا بَقِيَ الدَّهْرُ، أَعْيَانُهُمْ مَفْقُودَةٌ، وَأَمْثَالُهُمْ فِي الْقُلُوبِ مَوْجُودَةٌ. هَا إِنَّ هَاهُنَا لَعِلْمًا جَمًّا -وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى صَدْرِهِ- لَوْ أَصَبْتُ لَهُ حَمَلَةً، بَلَى أَصَبْتُ لَقِنًا غَيْرَ مَأْمُونٍ عَلَيْهِ، مُسْتَعْمِلًا آلَةَ الدِّينِ لِلدُّنْيَا، وَمُسْتَظْهِرًا بِنِعَمِ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ، وَبِحُجَجِهِ عَلَى أَوْلِيَائِهِ، أَوْ مُنْقَادًا لِحَمَلَةِ الْحَقِّ، لَا بَصِيرَةَ لَهُ فِي أَحْنَائِهِ، يَنْقَدِحُ الشَّكُّ فِي قَلْبِهِ لِأَوَّلِ عَارِضٍ مِنْ شُبْهَةٍ. أَلَا لَا ذَا وَلَا ذَاكَ، أَوْ مَنْهُومًا بِاللَّذَّةِ، سَلِسَ الْقِيَادِ لِلشَّهْوَةِ، أَوْ مُغْرَمًا بِالْجَمْعِ وَالْإِدِّخَارِ. لَيْسَا مِنْ رُعَاةِ الدِّينِ فِي شَيْءٍ. أَقْرَبُ شَيْءٍ شَبَهًا بِهِمَا الْأَنْعَامُ السَّائِمَةُ. كَذَلِكَ يَمُوتُ الْعِلْمُ بِمَوْتِ حَامِلِيهِ. اللَّهُمَّ بَلَى، لَا تَخْلُو الْأَرْضُ مِنْ قَائِمٍ لِلَّهِ بِحُجَّةٍ، إِمَّا ظَاهِرًا مَشْهُورًا، وَإِمَّا خَائِفًا مَغْمُورًا، لِئَلَّا تَبْطُلَ حُجَجُ اللَّهِ وَبَيِّنَاتُهُ، وَكَمْ ذَا؟ وَأَيْنَ أُولَئِكَ؟ أُولَئِكَ وَاللَّهِ الْأَقَلُّونَ عَدَدًا، وَالْأَعْظَمُونَ عِنْدَ اللَّهِ قَدْرًا، يَحْفَظُ اللَّهُ بِهِمْ حُجَجَهُ وَبَيِّنَاتِهِ، حَتَّى يُودِعُوهَا نُظَرَاءَهُمْ، وَيَزْرَعُوهَا فِي قُلُوبِ أَشْبَاهِهِمْ، هَجَمَ بِهِمُ الْعِلْمُ عَلَى حَقِيقَةِ الْبَصِيرَةِ، وَبَاشَرُوا رُوحَ الْيَقِينِ، وَاسْتَلَانُوا مَا اسْتَوْعَرَهُ الْمُتْرَفُونَ، وَأَنِسُوا بِمَا اسْتَوْحَشَ مِنْهُ الْجَاهِلُونَ، وَصَحِبُوا الدُّنْيَا بِأَبْدَانٍ أَرْوَاحُهَا مُعَلَّقَةٌ بِالْمَحَلِّ الْأَعْلَى. أُولَئِكَ خُلَفَاءُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ، وَالدُّعَاةُ إِلَى دِينِهِ. آهٍ آهٍ، شَوْقًا إِلَى رُؤْيَتِهِمْ! انْصَرِفْ يَا كُمَيْلُ إِذَا شِئْتَ -وَفِي رِوَايَةِ فُضَيْلِ بْنِ خُدَيْجٍ: وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكَ».
ملاحظة
قَالَ الْمَنْصُورُ حَفِظَهُ اللَّهُ تَعَالَى: هَذَا حَدِيثٌ ثَابِتٌ مَشْهُورٌ عَنْ كُمَيْلِ بْنِ زِيَادٍ [ت٨٢هـ]، رَوَاهُ عَنْهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنِ جُنْدُبٍ، وَفُضَيْلُ بْنُ خُدَيْجٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَأَبُو صَالِحٍ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ التَّيْمِيُّ[٢]، وَرَوَاهُ عَنْهُ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ فِيمَا أَسْنَدَهُ أَبُو هِلَالٍ [تنحو٣٩٥هـ][٣]، وَرَوَى مَسْعَدَةُ بْنُ صَدَقَةَ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ آبَائِهِ، عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِثْلَهُ[٤]، وَقَالَ أَوْفَى بْنُ دَلْهَمٍ الْعَدَوِيُّ [ت١٢٧هـ]: «قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ لِكُمَيْلِ بْنِ زِيَادٍ حِينَ ذَكَرَ حُجَجَ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ: هَجَمَ بِهِمُ الْعِلْمُ عَلَى حَقَائِقِ الْأُمُورِ، فَبَاشَرُوا رُوحَ الْيَقِينِ، وَاسْتَلَانُوا مَا اسْتَوْعَرَ الْمُتْرَفُونَ، وَأَنِسُوا بِمَا اسْتَوْحَشَ مِنْهُ الْجَاهِلُونَ، وَصَحِبُوا الدُّنْيَا بِأَبْدَانٍ أَرْوَاحُهَا مُعَلَّقَةٌ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى، هَاهْ، شَوْقًا إِلَى رُؤْيَتِهِمْ»[٥]، فَلَعَلَّهُ سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنْ كُمَيْلٍ، فَقَدْ عَاصَرَهُ، وَرَوَاهُ أَبُو إِسْحَاقَ السَّبِيعِيُّ [ت١٢٧هـ]، عَنِ «الثِّقَةِ مِنْ أَصْحَابِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ السَّلَامُ»[٦]، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ كُمَيْلًا، فَقَدْ رَوَى عَنْهُ، وَمَتْنُ الْحَدِيثِ شَاهِدٌ عَلَى صِحَّتِهِ؛ كَمَا قَالَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ [ت٤٦٣هـ]: «هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ أَحْسَنِ الْأَحَادِيثِ مَعْنًى وَأَشْرَفِهَا لَفْظًا»[٧]، وَقَالَ أَبُو هِلَالٍ [تنحو٣٩٥هـ]: «لَا أَعْرِفُ فِي مَدْحِ الْعِلْمِ وَعَدِّ خِصَالِهِ أَبْلَغَ مِنْ كَلَامِهِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَ خَاطَبَ بِهِ كُمَيْلَ بْنَ زِيَادٍ»[٨]، وَقَالَ ابْنُ طَرَّارٍ [ت٣٩٠هـ]: «لَقَدْ أَلْقَى أَمِيرُ الْمُؤمِنِينَ الْعَالِمُ الرَّبَّانِيُّ إِمَامُ الْمُسْلِمِينَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَآلِهِ إِلَى كُمَيْلِ بْنِ زِيَادٍ فِي مَجْلِسِهِ هَذَا عِلْمًا عَظِيمًا وَحُكْمًا جَسِيمًا، وَخَلَّفَ بِمَا أَتَى بِهِ مِنْهُ لِلْمُسْلِمِينَ حِكْمَةً شَافِيَةً وَوَصِيَّة كَافِيَةً، وَمَنْ جَعَلَ مِنَ الْعُلَمَاءِ هَذَا الْخَبَرَ أَمَامَهُ، وَأَخَذَ بِهِ فِي دِينِهِ، اقْتَبَسَ عِلْمًا غَزِيرًا، وَاسْتَفَادَ خَيْرًا كَثِيرًا»[٩]، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ مُشْتَاقٌ إِلَى مَنْ كَانَ لِلْعِلْمِ أَهْلًا لِيُعَلِّمَهُ مِمَّا عَلَّمَهُ اللَّهُ؛ كَمَا قَالَ: «هَا إِنَّ هَاهُنَا لَعِلْمًا جَمًّا -وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى صَدْرِهِ- لَوْ أَصَبْتُ لَهُ حَمَلَةً».
الشاهد ١
وَقَالَ ابْنُ شَهْرآشُوبَ [ت٥٨٨هـ] فِي «مَنَاقِبِ آلِ أَبِي طَالِبٍ»[١٠]: رَوَى ابْنُ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ مِنْ سِتَّةِ طُرُقٍ، وَابْنُ الْمُفَضَّلِ مِنْ عَشْرِ طُرُقٍ، وَإِبْرَاهِيمُ الثَّقَفِيُّ مِنْ أَرْبَعَةِ عَشَرَ طَرِيقًا، مِنْهُمُ الْأَصْبَغُ بْنُ نُبَاتَةَ، وَعَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ، وَعَلْقَمَةُ بْنُ قَيْسٍ، وَيَحْيَى بْنُ أُمِّ الطَّوِيلِ، وَزِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ، وَعَبَايَةُ بْنُ رِبْعِيٍّ، وَعَبَايَةُ بْنُ رِفَاعَةَ، وَأَبُو الطُّفَيْلِ، أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ بِحَضْرَةِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَأَشَارَ إِلَى صَدْرِهِ: «كَنِيفٌ مُلِئَ عِلْمًا لَوْ وَجَدْتُ لَهُ طَالِبًا، سَلُونِي قَبْلَ أَنْ تَفْقِدُونِي».
الشاهد ٢
وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ بَابَوَيْهِ [ت٣٨١هـ] فِي «التَّوْحِيدِ»[١١]، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ جَعْفَرُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ الْقُمِّيُّ ثُّمَّ الْإِيلَاقِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو سَعِيدٍ عَبْدَانُ بْنُ الْفَضْلِ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ بِمَدِينَةِ خُجَنْدَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ شُجَاعٍ الْفَرْغَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ حَمَّادٍ الْعَنْبَرِيُّ بِمِصْرَ، قَالَ: حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْجَلِيلِ الْبَرْقِيُّ، عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ وَهْبِ بْنِ وَهْبٍ الْقُرَشِيِّ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ الْبَاقِرِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَنَّهُ قَالَ فِي حَدِيثٍ: «لَوْ وَجَدْتُ لِعِلْمِيَ الَّذِي آتَانِيَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ حَمَلَةً لَنَشَرْتُ التَّوْحِيدَ وَالْإِسْلَامَ وَالْإِيمَانَ وَالدِّينَ وَالشَّرَائِعَ، وَكَيْفَ لِي بِذَلِكَ؟! وَلَمْ يَجِدْ جَدِّي أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَمَلَةً لِعِلْمِهِ، حَتَّى كَانَ يَتَنَفَّسُ الصُّعَدَاءَ، وَيَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ: سَلُونِي قَبْلَ أَنْ تَفْقِدُونِي، فَإِنَّ بَيْنَ الْجَوَانِحِ مِنِّي عِلْمًا جَمًّا، هَاهْ، هَاهْ، لَا أَجِدُ مَنْ يَحْمِلُهُ».
الشاهد ٣
وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْكُلَيْنِيُّ [ت٣٢٩هـ] فِي «الْكَافِي»[١٢]، قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ الرَّبِيعِ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي هَاشِمٍ الصَّيْرَفِيِّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُصْعَبٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ مُحْرِزٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقُولُ: «إِنَّ مِنْ عِلْمِ مَا أُوتِينَا تَفْسِيرَ الْقُرْآنِ وَأَحْكَامَهُ، وَعِلْمَ تَغْيِيرِ الزَّمَانِ وَحَدَثَانِهِ، إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ خَيْرًا أَسْمَعَهُمْ، وَلَوْ أَسْمَعَ مَنْ لَمْ يَسْمَعْ لَوَلَّى مُعْرِضًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْ»، ثُمَّ أَمْسَكَ هُنَيْئَةً، ثُمَّ قَالَ: «وَلَوْ وَجَدْنَا أَوْعِيَةً أَوْ مُسْتَرَاحًا لَقُلْنَا، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ».
الشاهد ٤
وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الصَّفَّارُ [ت٢٩٠هـ] فِي «بَصَائِرِ الدَّرَجَاتِ»[١٣]، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَحْيَى، عَنْ ذَرِيحٍ الْمُحَارِبِيِّ؛ وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنِ الْبَرْقِيِّ، عَنْ صَفْوَانَ، عَنْ ذَرِيحٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ -يَعْنِي جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقُولُ: «إِنَّ أَبِي نِعْمَ الْأَبُ، رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ، كَانَ يَقُولُ: لَوْ وَجَدْتُ ثَلَاثَةَ رَهْطٍ أَسْتَوْدِعُهُمُ الْعِلْمَ وَهُمْ أَهْلٌ لِذَلِكَ، لَحَدَّثْتُ بِمَا لَا يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى نَظَرٍ فِي حَلَالٍ وَلَا حَرَامٍ، وَمَا يَكُونُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، إِنَّ حَدِيثَنَا صَعْبٌ مُسْتَصْعَبٌ، لَا يُؤْمِنُ بِهِ إِلَّا عَبْدٌ امْتَحَنَ اللَّهُ قَلْبَهُ لِلْإِيمَانِ».
ملاحظة
قَالَ الْمَنْصُورُ حَفِظَهُ اللَّهُ تَعَالَى: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ مُشْتَاقٌ إِلَى مَنْ كَانَ لِلْعِلْمِ أَهْلًا لِيُعَلِّمَهُ مِمَّا عَلَّمَهُ اللَّهُ، وَلَيْسَ لِلْعِلْمِ أَهْلًا مَنْ يَطْلُبُهُ لِأَرْبَعٍ: لِيُبَاهِيَ بِهِ الْعُلَمَاءَ، أَوْ لِيُمَارِيَ بِهِ السُّفَهَاءَ، أَوْ لِيَأْخُذَ بِهِ مِنَ الْأُمَرَاءِ، أَوْ لِيَصْرِفَ بِهِ وُجُوهَ النَّاسِ إِلَيْهِ، وَلَيْسَ لِلْعِلْمِ أَهْلًا مَنْ كَانَ لَهُ عَقْلٌ ضَعِيفٌ وَإِنْ كَانَ مُؤْمِنًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُوثَقُ بِإِيمَانِهِ، وَلَيْسَ لِلْعِلْمِ أَهْلًا مَنْ لَا وَرَعَ لَهُ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ، أَوْ قَدْ أَهَمَّتْهُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا، أَوْ يُذِيعُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِضَاعَةُ الْعِلْمِ أَنْ تُحَدِّثَ بِهِ غَيْرَ أَهْلِهِ»[١٤]، وَقَالَ: «وَاضِعُ الْعِلْمِ عِنْدَ غَيْرِ أَهْلِهِ كَمُقَلِّدِ الْخَنَازِيرِ الْجَوْهَرَ»[١٥]، وَقَالَ: «لَا تَطْرَحُوا الدُّرَّ فِي أَفْوَاهِ الْكِلَابِ»[١٦]، يَعْنِي الْعِلْمَ، وَقَالَ: «إِنَّ عِيسَى بْنَ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَامَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَقَالَ: لَا تُحَدِّثُوا الْجُهَّالَ بِالْحِكْمَةِ فَتَظْلِمُوهَا، وَلَا تَمْنَعُوهَا أَهْلَهَا فَتَظْلِمُوهُمْ»[١٧]، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ قَالَ: «لَا تُحَدِّثُوا بِالْحِكْمَةِ غَيْرَ أَهْلِهَا فَتَجْهَلُوا، وَلَا تَمْنَعُوهَا أَهْلَهَا فَتَأْثَمُوا، وَلْيَكُنْ أَحَدُكُمْ بِمَنْزِلَةِ الطَّبِيبِ الْمُدَاوِي، يَضَعُ دَوَاءَهُ حَيْثُ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَنْفَعُ»[١٨]، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «لَا تُحَدِّثْ بِالْعِلْمِ السُّفَهَاءَ فُيُكَذِّبُوكَ، وَلَا الْجُهَّالَ فَيَسْتَثْقِلُوكَ، وَلَكِنْ حَدِّثْ بِهِ مَنْ يَتَلَقَّاهُ مِنْ أَهْلِهِ بِقَبُولٍ وَفَهْمٍ، يَفْهَمُ عَنْكَ مَا تَقُولُ، وَيَكْتُمُ عَلَيْكَ مَا يَسْمَعُ، فَإِنَّ لِعِلْمِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، كَمَا إِنَّ عَلَيْكَ فِي مَالِكَ حَقًّا: بَذْلَهُ لِمُسْتَحِقِّهِ، وَمَنْعَهُ عَنْ غَيْرِ مُسْتَحِقِّهِ»[١٩]، وَقَالَ: «لَيْسَ كُلُّ الْعِلْمِ يَسْتَطِيعُ صَاحِبُ الْعِلْمِ أَنْ يُفَسِّرَهُ لِكُلِّ النَّاسِ، لِأَنَّ مِنْهُمُ الْقَوِيَّ وَالضَّعِيفَ، وَلِأَنَّ مِنْهُ مَا يُطَاقُ حَمْلُهُ، وَمِنْهُ مَا لَا يُطَاقُ حَمْلُهُ إِلَّا مَنْ يُسَهِّلِ اللَّهُ لَهُ حَمْلَهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ مِنْ خَاصَّةِ أَوْلِيَائِهِ»[٢٠]، وَقَالَ: «اذْكُرْ قَوْلَ الْعَبْدِ الصَّالِحِ لِمُوسَى، وَقَدْ قَالَ لَهُ: ﴿هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا﴾[٢١]»[٢٢]، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، قَالَ: «قُلْتُ لِأَبِي جَعْفَرٍ: حَمِّلْنِي حَمْلَ الْبَازِلِ[٢٣]، فَقَالَ لِي: إِذًا تَنْفَسِخُ»[٢٤]، وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْمَدَائِنِيِّ، قَالَ: قَالَ لِي جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ: «اقْرَأْ مَوَالِينَا السَّلَامَ، وَأَعْلِمْهُمْ أَنْ يَجْعَلُوا حَدِيثَنَا فِي حُصُونٍ حَصِينَةٍ، وَصُدُورٍ فَقِيهَةٍ، وَأَحْلَامٍ رَزِينَةٍ، وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ، مَا الشَّاتِمُ لَنَا عِرْضًا وَالنَّاصِبُ لَنَا حَرْبًا أَشَدَّ مَؤُونَةً مِنَ الْمُذِيعِ عَلَيْنَا حَدِيثَنَا عِنْدَ مَنْ لَا يَحْتَمِلُهُ»[٢٥]، وَعَنْ هِشَامِ بْنِ الْحَكَمِ، قَالَ: «قَالَ لِي مُوسَى بْنُ جَعْفَرٍ: إِيَّاكَ أَنْ تَغْلِبَ الْحِكْمَةَ وَتَضَعَهَا فِي أَهْلِ الْجَهَالَةِ، قُلْتُ: فَإِنْ وَجَدْتُ رَجُلًا طَالِبًا، غَيْرَ أَنَّ عَقْلَهُ لَا يَتَّسِعُ لِضَبْطِ مَا أُلْقِي إِلَيْهِ؟ قَالَ: فَتَلَطَّفْ لَهُ فِي النَّصِيحَةِ، فَإِنْ ضَاقَ قَلْبُهُ فَلَا تُعَرِّضَنَّ نَفْسَكَ لِلْفِتْنَةِ، وَاحْذَرْ رَدَّ الْمُتَكَبِّرِينَ»[٢٦]، وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ كَانَ لَا يُحَدِّثُ أَحَدًا حَتَّى يَمْتَحِنَهُ، فَإِنْ كَانَ غَرِيبًا، قَالَ لَهُ: «مِنْ أَيْنَ أَنْتَ؟» فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ قَالَ: «أَيْنَ مُصَلَّاكَ؟» وَيَسْأَلُ كَمَا يَسْأَلُ الْقَاضِي عَنِ الْبَيِّنَةِ، فَإِذَا قَالَ لَهُ سَأَلَ عَنْهُ، فَإِنْ كَانَ صَاحِبَ بِدْعَةٍ قَالَ: «لَا تَعُودَنَّ إِلَى هَذَا الْمَجْلِسِ»، فَإِنْ بَلَغَهُ عَنْهُ خَيْرًا أَدْنَاهُ وَحَدَّثَهُ، فَقِيلَ لَهُ: «لِمَ تَفْعَلْ هَذَا؟» قَالَ: «أَكْرَهُ أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ عِنْدَهُمْ، فَيَصِيرُوا أَئِمَّةً يُحْتَاجُ إِلَيْهِمْ، فَيُبَدِّلُوا كَيْفَ شَاؤُوا»[٢٧].
ثُمَّ قَالَ الْمَنْصُورُ حَفِظَهُ اللَّهُ تَعَالَى: هَذِهِ مِنَ الْحِكْمَةِ، وَقَدْ يَقُولُ قَائِلٌ: فَمَا بَالُ النَّبِيِّينَ جَاؤُوا بِالْعِلْمِ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً حَتَّى كُذِّبُوا وَقُتِلُوا؟! فَأَقُولُ: إِنَّ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَا يُعْذَرُ أَحَدٌ بِجَهَالَتِهِ، وَهُوَ الْعِلْمُ بِأُصُولِ الدِّينِ، فَهُوَ الَّذِي جَاؤُوا بِهِ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً، فَذَكَّرُوهُمْ بِمَا لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ ذِكْرِهِ، وَلَوْ لَمْ يَذْكُرُوهُ لَهَلَكُوا، لِئَلَّا يَكُونَ لَهُمْ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ؛ كَمَا قَالَ: ﴿وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى﴾[٢٨]، ثُمَّ إِنَّهُمْ جَاؤُوا بِالْعِلْمِ إِلَى النَّاسِ طَالِبِينَ لِأَهْلِهِ، وَلَوْ لَمْ يُلْقَ إِلَى النَّاسِ شَيْءٌ مِنَ الْعِلْمِ لَمْ يُعْرَفْ أَهْلُهُ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَهْلُهُ أَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ وَأَعْرَضُوا عَنِ الْآخَرِينَ، وَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ﴾[٢٩]، فَأَبَاحَ لَهُ الْإِعْرَاضَ بَعْدَ الصَّدْعِ، فَلَمْ يَكُنْ لِيُعْرِضَ عَنْ أَحَدٍ حَتَّى يُبْلِغَهُ مَا يُنْجِيهِ، فَيُعْرِضَ؛ كَمَا قَالَ: ﴿فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا ۖ إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ﴾[٣٠]، وَمِنْ تَأْدِيبِهِ لَهُ أَنَّهُ قَالَ: ﴿أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى وَهُوَ يَخْشَى فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ﴾[٣١]، فَأَمَرَهُ بِالْإِعْرَاضِ عَمَّنِ اسْتَغْنَى وَلَوْ كَانَ ذَا مَالٍ وَشَرَفٍ، وَالْإِقْبَالِ عَلَى مَنْ جَاءَهُ يَسْعَى وَهُوَ يَخْشَى وَلَوْ كَانَ أَعْمَى، وَهَذِهِ طَرِيقَةُ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا، وَأَمَّا الضَّالُّونَ مِنَ الْعُلَمَاءِ فَيُقْبِلُونَ عَلَى أَهْلِ الْمَالِ وَالشَّرَفِ لِيَنْتَفِعُوا مِنْ مَالِهِمْ وَشَرَفِهِمْ، وَيُعْرِضُونَ عَنِ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ النَّاسِ؛ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا، فَـ﴿لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾[٣٢]؛ كَمَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: «لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ صَانُوا عِلْمَهُمْ وَوَضَعُوهُ عِنْدَ أَهْلِهِ لَسَادُوا بِهِ أَهْلَ زَمَانِهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ بَذَلُوهُ لِأَهْلِ الدُّنْيَا لِيَنَالُوا بِهِ مِنْ دُنْيَاهُمْ، فَهَانُوا عَلَى أَهْلِهَا»[٣٣]، وَمِنْ طَرِيقَةِ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ أَنَّهُمْ يَعْرِضُونَ الْعِلْمَ لِلنَّاسِ عَرْضًا، فَيَنْظُرُونَ كَيْفَ يَعْمَلُونَ، وَأَوَّلُ مَا يُلْقَى إِلَى الرَّجُلِ مِنَ الْعِلْمِ فِتْنَةٌ لَهُ، فَإِنْ قَبِلَهُ حَقَّ قَبُولِهِ زَادَهُ اللَّهُ عِلْمًا؛ كَمَا قَالَ: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾[٣٤]، وَقَالَ: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ﴾[٣٥]، وَإِنْ لَمْ يَقْبَلْهُ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ لِيَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ؛ كَمَا قَالَ: ﴿وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾[٣٦]، وَلِذَلِكَ جَاءَ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْبَيْتِ أَنَّهُ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: «إِنَّ حَدِيثَكُمْ هَذَا لَتَشْمَئِزُّ مِنْهُ قُلُوبُ الرِّجَالِ، فَانْبِذُوهُ إِلَيْهِمْ نَبْذًا، فَمَنْ أَقَرَّ بِهِ فَزِيدُوهُ، وَمَنْ أَنْكَرَ فَذَرُوهُ»[٣٧].
الشاهد ٥
وَرَوَى الرَّضِيُّ [ت٤٠٦هـ] فِي «نَهْجِ الْبَلَاغَةِ»[٣٨]، وَ«خَصَائِصِ الْأَئِمَّةِ»[٣٩] أَنَّ عَلِيًّا عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لِأَهْلِ الْعِرَاقِ فِي خُطْبَةٍ لَهُ: «لَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّكُمْ تَقُولُونَ عَلِيٌّ يَكْذِبُ! قَاتَلَكُمُ اللَّهُ، فَعَلَى مَنْ أَكْذِبُ؟! أَعَلَى اللَّهِ؟! فَأَنَا أَوَّلُ مَنْ آمَنَ بِهِ، أَمْ عَلَى نَبِيِّهِ؟! فَأَنَا أَوَّلُ مَنْ صَدَّقَهُ، كَلَّا وَاللَّهِ، لَكِنَّهَا لَهْجَةٌ غِبْتُمْ عَنْهَا، وَلَمْ تَكُونُوا مِنْ أَهْلِهَا، وَعِلْمٌ عَجَزْتُمْ عَنْ حَمْلِهِ، وَلَمْ تَكُونُوا مِنْ أَهْلِهِ، كَيْلًا بِغَيْرِ ثَمَنٍ، لَوْ كَانَ لَهُ وِعَاءٌ، ﴿وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ﴾[٤٠]».
الشاهد ٦
وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ النُّعْمَانِيُّ [تنحو٣٦٠هـ] فِي «الْغَيْبَةِ»[٤١]، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ عُقْدَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، وَسَعْدَانُ بْنُ إِسْحَاقَ، وَأَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقَطْوَانِيُّ، قَالُوا: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مَحْبُوبٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ سَالِمٍ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ الثُّمَالِيِّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ مَنْ يُوثَقُ بِهِ مِنْ أَصْحَابِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقُولُ: قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي خُطْبَةٍ خَطَبَهَا بِالْكُوفَةِ بَعْدَ كَلَامٍ طَوِيلٍ: «كَلَامٌ يُكَالُ بِلَا ثَمَنٍ، لَوْ كَانَ مَنْ يَسْمَعُهُ بِعَقْلِهِ، فَيَعْرِفُهُ، وَيُؤْمِنُ بِهِ، وَيَتَّبِعُهُ، وَيَنْهَجُ نَهْجَهُ، فَيُفْلِحُ بِهِ»، ثُمَّ قَالَ: «فَمَنْ هَذَا؟! وَلِهَذَا يَأْرِزُ الْعِلْمُ[٤٢] إِذْ لَمْ يُوجَدْ حَمَلَةٌ يَحْفَظُونَهُ وَيُؤَدُّونَهُ كَمَا يَسْمَعُونَهُ مِنَ الْعَالِمِ».
الشاهد ٧
وَرَوَى زَيْدٌ الزَّرَّادُ [تالقرن٢هـ] فِي «كِتَابِهِ»[٤٣]، قَالَ: حَدَّثَنَا جَابِرُ بْنُ يَزِيدَ الْجُعْفِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقُولُ: «إِنَّ لَنَا أَوْعِيَةً نَمْلَأُهَا عِلْمًا وَحُكْمًا، وَلَيْسَتْ لَهَا بِأَهْلٍ، فَمَا نَمْلَأُهَا إِلَّا لِتُنْقَلَ إِلَى شِيعَتِنَا، فَانْظُرُوا إِلَى مَا فِي الْأَوْعِيَةِ، فَخُذُوهَا، ثُمَّ صَفُّوهَا مِنَ الْكُدُورَةِ، تَأْخُذُوهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً صَافِيَةً، وَإِيَّاكُمْ وَالْأَوْعِيَةَ، فَإِنَّهَا وِعَاءُ سَوْءٍ، فَتَنْكُبُوهَا».
ملاحظة
قَالَ الْمَنْصُورُ حَفِظَهُ اللَّهُ تَعَالَى: يَعْنِي خُذُوا مَا يَرْوُونَ، وَدَعُوا مَا يَرَوْنَ، وَهَذَا وَجْهٌ آخَرُ لِنَشْرِ الْعِلْمِ فِي النَّاسِ؛ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يَنْشُرُهُ فِيهِمْ، وَيَقُولُ: «نَضَّرَ اللَّهُ امْرَءًا سَمِعَ مَقَالَتِي، فَأَدَّاهَا كَمَا سَمِعَهَا، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ غَيْرِ فَقِيهٍ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ»[٤٤].