الحديث ٣٧
إذا مضى اثنا عشر خليفة انقضت الدّنيا.
رَوَى مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ [ت٢٦١هـ] فِي «صَحِيحِهِ»[١]، قَالَ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ؛ وَرَوَى أَسْلَمُ بْنُ سَهْلٍ الرَّزَّازُ [ت٢٩٢هـ] فِي «تَارِيخِ وَاسِطَ»[٢]، قَالَ: حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ بَقِيَّةَ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الطَّحَّانُ؛ جَمِيعًا عَنْ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ:
دَخَلْتُ مَعَ أَبِي عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: «أَلَا إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ لَا يَنْقَضِي حَتَّى يَمْضِيَ اثْنَا عَشَرَ خَلِيفَةً»، ثُمَّ تَكَلَّمَ بِشَيْءٍ لَمْ أَفْهَمْهُ، فَقُلْتُ لِأَبِي: مَا قَالَ؟ قَالَ: «كُلُّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ».
الشاهد ١
وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ مَخْلَدٍ [ت٣٣١هـ] فِي «حَدِيثِهِ»[٣]، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُوسُ بْنُ بِشْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ: دَخَلْتُ أَنَا وَأَبِي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، فَتَكَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «إِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ لَنْ تَنْقَضِيَ حَتَّى يَكُونَ فِيكُمُ اثْنَا عَشَرَ خَلِيفَةً»، قَالَ: ثُمَّ تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ لَمْ أَفْهَمْهَا، فَسَأَلْتُ أَبِي، فَقَالَ: «كُلُّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ».
ملاحظة
قَالَ الْمَنْصُورُ حَفِظَهُ اللَّهُ تَعَالَى: هَذَا حَدِيثٌ ذُو صَرَاحَةٍ فِي أَنَّ الدُّنْيَا لَا تَنْقَضِي مَادَامَ فِيهَا أَحَدٌ مِنَ الْخُلَفَاءِ الْإِثْنَيْ عَشَرَ، فَإِذَا مَضَى آخِرُهُمْ، وَهُوَ الْمَهْدِيُّ، انْقَضَتِ الدُّنْيَا، وَقَدْ رَوَاهُ بِهَذَا اللَّفْظِ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، وَخَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَعِمْرَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، وَعَبْثَرُ بْنُ الْقَاسِمِ، وَجَعْفَرُ بْنُ الْحَارِثِ، وَسُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ، جَمِيعًا عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ جَابِرٍ.
الشاهد ٢
وَرَوَى أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَيَّاشٍ الْجَوْهَرِيُّ [ت٤٠١هـ] فِي «مُقْتَضَبِ الْأَثَرِ»[٤]، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ حَمَّادٍ الْأَزْدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانَ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُمَيَّةَ مَوْلَى بَنِي مُجَاشِعٍ، عَنْ يَزِيدَ الرَّقَاشِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «لَنْ يَزَالَ الدِّينُ قَائِمًا إِلَى اثْنَيْ عَشَرَ مِنْ قُرَيْشٍ، فَإِذَا هَلَكُوا مَاجَتِ الْأَرْضُ بِأَهْلِهَا».
ملاحظة
قَالَ الْمَنْصُورُ حَفِظَهُ اللَّهُ تَعَالَى: هَذَا نَصٌّ فِي أَنَّ الْأَرْضَ لَوْ خَلَتْ مِنَ الْخُلَفَاءِ الْإِثْنَيْ عَشَرَ لَمَاجَتْ بِأَهْلِهَا كَمَا يَمُوجُ الْبَحْرُ بِأَهْلِهِ، وَلِذَلِكَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِيهَا أَحَدٌ مِنَ الْخُلَفَاءِ الْإِثْنَيْ عَشَرَ دَائِمًا، كَمَا أَفَادَ حَدِيثُ الْجَمَاعَةِ، عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ جَابِرٍ، بِلَفْظِ الْإِنْقَضَاءِ، وَهَذِهِ أَحَادِيثُ مُحْكَمَةٌ تُبَيِّنُ مَا تَشَابَهَ مِنَ الْأَحَادِيثِ، وَقَدِ اتَّبَعَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ مَا تَشَابَهَ مِنْهَا ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهَا، فَقَالُوا: «إِنَّمَا أَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: <يَكُونُ بَعْدِي اثْنَا عَشَرَ خَلِيفَةً>، أَنَّ الْأَمْرَ يَكُونُ صَالِحًا فِي زَمَانِهِمْ، لَا أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ نَفْيَ مَا وَرَاءَ هَذَا الْعَدَدِ مِنَ الْخُلَفَاءِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خِلَالَهُمْ خُلَفَاءُ آخَرُونَ»، وَلَيْسَ كَمَا قَالُوا، وَلَكِنَّهُمْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ نُصْرَةً لِمُلُوكِهِمْ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ شَهَادَةُ الْوِجْدَانِ بِأَنَّ مَنْ كَانَ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ عِلْمٌ بِمَنْ يَكُونُ بَعْدَهُ، عِنْدَمَا سَمِعَ بِقَوْلِهِ: «يَكُونُ بَعْدِي اثْنَا عَشَرَ خَلِيفَةً»، لَمْ يَفْهَمْ مِنْهُ إِلَّا الْإِنْحِصَارَ وَالتَّوَالِي؛ فَلَمْ يَظْهَرِ الْقَوْلُ بِأَنَّهُ أَرَادَ غَيْرَ ذَلِكَ إِلَّا بَعْدَهُ، عِنْدَمَا زَادَ الْمُلُوكُ وَانْقَطَعَ الْعَدْلُ؛ فَكَانَ قَوْلًا مُحْدَثًا، «وَكُلُّ مُحْدَثٍ بِدْعَةٌ، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ»[٥]، وَلَوْ عَلِمَ هَؤُلَاءِ أَنَّ الْخَلِيفَةَ مَنْ فَرَضَ اللَّهُ بَيْعَتَهُ وَإِنْ لَمْ يُبَايِعْهُ النَّاسُ، لَمْ يَحْتَاجُوا إِلَى هَذَا الْقَوْلِ، وَلَأَمَرُّوا الْأَحَادِيثَ عَلَى ظَاهِرِهَا؛ لِأَنَّ التَّأْوِيلَ غَيْرُ جَائِزٍ عِنْدَهُمْ إِلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَأَمَّا قَوْلُ قَائِلٍ مِنْهُمْ بِأَنَّ اثْنَيْ عَشَرَ خَلِيفَةً قَلِيلُونَ، وَمُدَّةَ الْأُمَّةِ أَطْوَلُ مِنْ مُدَّتِهِمْ إِذَا تَتَابَعُوا، فَاجْتِهَادٌ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ، وَمَا كَانَ لِيَعْلَمَ مُدَّتَهُمْ إِلَّا اللَّهُ، ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ ۚ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا﴾[٦]، وَيُحْكَى عَنِ الْجُبَّائِيِّ [ت٣٠٣هـ] أَنَّهُ اسْتَشْكَلَ فِي هَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْخُلَفَاءُ مَعْدُودِينَ مَعْرُوفِينَ لَكَانَ وَقْتُ الْقِيَامَةِ مَعْلُومًا لِلنَّاسِ؛ إِذْ كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّهَا تَقُومُ بَعْدَ مَوْتِ الْخَلِيفَةِ الْآخِرِ، وَلَا تَقُومُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ: ﴿إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ﴾[٧]، وَهَذَا أَقْوَى مَا اسْتُشْكِلَ بِهِ فِي هَذَا الْقَوْلِ، لَكِنَّهُ مَرْدُودٌ بِأَنَّ لِلْقِيَامَةِ أَشْرَاطًا أُخْرَى ثَبَتَتْ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، كَنُزُولِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَخُرُوجِ الدَّجَّالِ، وَقَدْ عَلِمَ النَّاسُ بِأَنَّهَا لَا تَقُومُ إِلَّا بَعْدَ مَجِيئِهَا، وَلَمْ يَعْتَبِرْهَا الْجُبَّائِيُّ [ت٣٠٣هـ] مِمَّا يَسْتَلْزِمُ عِلْمَهُمْ بِوَقْتِ الْقِيَامَةِ، وَلَا تَسْتَلْزِمُهُ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ وَقْتَ مَجِيئِهَا؛ فَعَسَى أَنْ تَجِيءَ غَدًا أَوْ بَعْدَ فَتْرَةٍ طَوِيلَةٍ، وَالْعِلْمُ بِالْخُلَفَاءِ أَيْضًا مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، وَلَا يَعْلَمُ النَّاسُ مَتَى يَظْهَرُ الْخَلِيفَةُ الْآخِرُ، وَلَا يَعْلَمُونَ مَتَى يَمُوتُ، وَلَا يَعْلَمُونَ مَاذَا يَكُونُ بَعْدَهُ، أَتَقُومُ عَلَيْهِمُ الْقِيَامَةُ أَوْ يَبْقَى فِيهِمْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِفَتْرَةٍ طَوِيلَةٍ، وَكُلُّ هَذَا يَكْفِي لِعَدَمِ عِلْمِهِمْ بِوَقْتِ الْقِيَامَةِ.