الحديث ٩
نصرة الإمام بما لم يبايع عليه
رَوَى مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ [ت٢٦١هـ] فِي «صَحِيحِهِ»[١]، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ:
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ شَاوَرَ حِينَ بَلَغَهُ إِقْبَالُ أَبِي سُفْيَانَ -يَعْنِي يَوْمَ بَدْرٍ-، فَتَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ تَكَلَّمَ عُمَرُ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَقَامَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ -وَهُوَ مِنَ الْأَنْصَارِ- فَقَالَ: «إِيَّانَا تُرِيدُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟! وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ أَمَرْتَنَا أَنْ نُخِيضَهَا الْبَحْرَ لَأَخَضْنَاهَا، وَلَوْ أَمَرْتَنَا أَنْ نَضْرِبَ أَكْبَادَهَا إِلَى بِرْكِ الْغِمَادِ لَفَعَلْنَا»، قَالَ: فَنَدَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ، فَانْطَلَقُوا حَتَّى نَزَلُوا بَدْرًا.
الشاهد ١
وَرَوَى أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ [ت٢٤١هـ] فِي «مُسْنَدِهِ»[٢]، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبِيدَةُ، عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: اسْتَشَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ مَخْرَجَهُ إِلَى بَدْرٍ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ اسْتَشَارَهُمْ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ عُمَرُ، ثُمَّ اسْتَشَارَهُمْ، فَقَالَ بَعْضُ الْأَنْصَارِ: «إِيَّاكُمْ يُرِيدُ نَبِيُّ اللَّهِ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ»! فَقَالَ قَائِلُ الْأَنْصَارِ: «تَسْتَشِيرُنَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ؟! إِنَّا لَا نَقُولُ لَكَ كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: ﴿اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾[٣]، وَلَكِنْ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، لَوْ ضَرَبْتَ أَكْبَادَهَا إِلَى بِرْكِ الْغِمَادِ لَاتَّبَعْنَاكَ».
الشاهد ٢
وَرَوَى الْوَاقِدِيُّ [ت٢٠٧هـ] فِي «الْمَغَازِي»[٤]، قَالَ: قَالُوا: مَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ حَتَّى إِذَا كَانَ دُوَيْنَ بَدْرٍ، أَتَاهُ الْخَبَرُ بِمَسِيرِ قُرَيْشٍ، فَأَخْبَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ بِمَسِيرِهِمْ، وَاسْتَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ، فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ فَأَحْسَنَ، ثُمَّ قَامَ عُمَرُ، فَقَالَ فَأَحْسَنَ، ثُمَّ قَالَ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهَا وَاللَّهِ قُرَيْشٌ وَعِزُّهَا، وَاللَّهِ مَا ذَلَّتْ مُنْذُ عَزَّتْ، وَاللَّهِ مَا آمَنَتْ مُنْذُ كَفَرَتْ، وَاللَّهِ لَا تُسْلِمُ عِزَّهَا أَبَدًا، وَلَتُقَاتِلَنَّكَ، فَاتَّهِبْ لِذَلِكَ أُهْبَتَهُ، وَأَعِدَّ لِذَلِكَ عُدَّتَهُ»! ثُمَّ قَامَ الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو، فَقَالَ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، امْضِ لِأَمْرِ اللَّهِ، فَنَحْنُ مَعَكَ، وَاللَّهِ لَا نَقُولُ لَكَ كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِنَبِيِّهَا: ﴿اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾، وَلَكِنِ اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا، إِنَّا مَعَكُمَا مُقَاتِلُونَ، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، لَوْ سِرْتَ بِنَا إِلَى بِرْكِ الْغِمَادِ لَسِرْنَا مَعَكَ»، وَبِرْكُ الْغِمَادِ مِنْ وَرَاءِ مَكَّةَ بِخَمْسِ لَيَالٍ مِنْ وَرَاءِ السَّاحِلِ مِمَّا يَلِي الْبَحْرَ، وَهُوَ عَلَى ثَمَانِ لَيَالٍ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْيَمَنِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ خَيْرًا، وَدَعَا لَهُ بِخَيْرٍ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «أَشِيرُوا عَلَيَّ أَيُّهَا النَّاسُ»، وَإِنَّمَا يُرِيدُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ الْأَنْصَارَ، وَكَانَ يَظُنُّ أَنَّ الْأَنْصَارَ لَا تَنْصُرُهُ إِلَّا فِي الدَّارِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ شَرَطُوا لَهُ أَنْ يَمْنَعُوهُ مِمَّا يَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَهُمْ وَأَوْلَادَهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «أَشِيرُوا عَلَيَّ»، فَقَامَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، فَقَالَ: «أَنَا أُجِيبُ عَنِ الْأَنْصَارِ، كَأَنَّكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ تُرِيدُنَا»! قَالَ: «أَجَلْ»، قَالَ: «إِنَّكَ عَسَى أَنْ تَكُونَ خَرَجْتَ عَنْ أَمْرٍ قَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ فِي غَيْرِهِ، وَإِنَّا قَدْ آمَنَّا بِكَ وَصَدَّقْنَاكَ، وَشَهِدْنَا أَنَّ كُلَّ مَا جِئْتَ بِهِ حَقٌّ، وَأَعْطَيْنَاكَ مَوَاثِيقَنَا وَعُهُودَنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فَامْضِ يَا نَبِيَّ اللَّهِ، فَوَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، لَوِ اسْتَعْرَضْتَ هَذَا الْبَحْرَ فَخُضْتَهُ لَخُضْنَاهُ مَعَكَ مَا بَقِيَ مِنَّا رَجُلٌ، وَصِلْ مَنْ شِئْتَ، وَاقْطَعْ مَنْ شِئْتَ، وَخُذْ مِنْ أَمْوَالِنَا مَا شِئْتَ، وَمَا أَخَذْتَ مِنْ أَمْوَالِنَا أَحَبُّ إِلَيْنَا مِمَّا تَرَكْتَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا سَلَكْتُ هَذَا الطَّرِيقَ قَطُّ وَمَا لِي بِهَا مِنْ عِلْمٍ، وَمَا نَكْرَهُ أَنْ يَلْقَانَا عَدُوُّنَا غَدًا، إِنَّا لَصُبُرٌ عِنْدَ الْحَرْبِ صُدُقٌ عِنْدَ اللِّقَاءِ، لَعَلَّ اللَّهَ يُرِيكَ مِنَّا مَا تَقَرُّ بِهِ عَيْنُكَ»، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ هِشَامٍ [ت٢١٣هـ][٥]: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «أَشِيرُوا عَلَيَّ أَيُّهَا النَّاسُ»، وَإِنَّمَا يُرِيدُ الْأَنْصَارَ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ عَدَدُ النَّاسِ، وَأَنَّهُمْ حِينَ بَايَعُوهُ بِالْعَقَبَةِ قَالُوا: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا بُرَآءُ مِنْ ذِمَامِكَ حَتَّى تَصِلَ إِلَى دِيَارِنَا، فَإِذَا وَصَلْتَ إِلَيْنَا فَأَنْتَ فِي ذِمَّتِنَا، نَمْنَعُكَ مِمَّا نَمْنَعُ مِنْهُ أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا»، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يَتَخَوَّفُ أَلَّا تَكُونَ الْأَنْصَارُ تَرَى عَلَيْهَا نَصْرَهُ إِلَّا مِمَّنْ دَهَمَهُ بِالْمَدِينَةِ مِنْ عَدُوِّهِ، وَأَنْ لَيْسَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَسِيرَ بِهِمْ إِلَى عَدُوٍّ مِنْ بِلَادِهِمْ، فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ: «وَاللَّهِ لَكَأَنَّكَ تُرِيدُنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ»! قَالَ: «أَجَلْ»، قَالَ: «فَقَدْ آمَنَّا بِكَ وَصَدَّقْنَاكَ، وَشَهِدْنَا أَنَّ مَا جِئْتَ بِهِ هُوَ الْحَقُّ، وَأَعْطَيْنَاكَ عَلَى ذَلِكَ عُهُودَنَا وَمَوَاثِيقَنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فَامْضِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَا أَرَدْتَ، فَنَحْنُ مَعَكَ، فَوَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، لَوِ اسْتَعْرَضْتَ بِنَا هَذَا الْبَحْرَ فَخُضْتَهُ لَخُضْنَاهُ مَعَكَ، مَا تَخَلَّفَ مِنَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ، وَمَا نَكْرَهُ أَنْ تَلْقَى بِنَا عَدُوَّنَا غَدًا، إِنَّا لَصُبُرٌ فِي الْحَرْبِ صُدُقٌ فِي اللِّقَاءِ، لَعَلَّ اللَّهَ يُرِيكَ مِنَّا مَا تَقَرُّ بِهِ عَيْنُكَ، فَسِرْ بِنَا عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ»، فَسُرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِ سَعْدٍ، وَنَشَّطَهُ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: «سِيرُوا وَأَبْشِرُوا، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ وَعَدَنِي إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، وَاللَّهِ لَكَأَنِّي الْآنَ أَنْظُرُ إِلَى مَصَارِعِ الْقَوْمِ».
ملاحظة
قَالَ الْمَنْصُورُ حَفِظَهُ اللَّهُ تَعَالَى: لَقَدْ كَانَ فِي الْأَنْصَارِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ، وَفِي سِيرَتِهِمْ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ إِذَا اعْتَرَضَتْ حَاجَةٌ إِلَى نُصْرَةِ الْإِمَامِ بِمَا لَمْ يُبَايَعْ عَلَيْهِ مِنْ قَبْلُ لَمْ يَبْخَلْ بِهَا الْمُؤْمِنُونَ، ﴿وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ ۚ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ ۚ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾[٦].