الحديث ٣٣
«ذَمُّ السُّؤَالِ عَمَّا لَا يَنْفَعُ، وَهُوَ مَا لَا يُسْئَلُ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»
رَوَى الطَّبَرِيُّ [ت٣١٠هـ] فِي «تَفْسِيرِهِ»[١]، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي الشَّوَارِبِ -يَعْنِي مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ-، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ حُدَيْرٍ، عَنْ رُفَيْعٍ أَبِي كَثِيرٍ، قَالَ:
قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: «سَلُوا عَمَّا شِئْتُمْ»، فَقَامَ ابْنُ الْكَوَّاءِ، فَقَالَ: مَا السَّوَادُ الَّذِي فِي الْقَمَرِ؟ فَقَالَ: «قَاتَلَكَ اللَّهُ، هَلَّا سَأَلْتَ عَنْ أَمْرِ دِينِكَ وَآخِرَتِكَ؟!» ثُمَّ قَالَ: «ذَلِكَ مَحْوُ اللَّيْلِ».
شاهد
وَرَوَى الْآجُرِيُّ [ت٣٦٠هـ] فِي «أَخْلَاقِ الْعُلَمَاءِ»[٢]، قَالَ: أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّنْدَلِيُّ، أَخْبَرَنَا الزَّعْفَرَانِيُّ -يَعْنِي الْحَسَنَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ الصَّبَّاحِ-، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَطَاءٍ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُدَيْرٍ، عَنْ رُفِيعٍ أَبِي كَثِيرٍ، قَالَ: قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ يَوْمًا: «سَلُونِي عَمَّا شِئْتُمْ»، فَقَالَ ابْنُ الْكَوَّاءِ: مَا السَّوَادُ فِي الْقَمَرِ؟ قَالَ: «قَاتَلَكَ اللَّهُ، أَلَا سَأَلْتَ عَمَّا يَنْفَعُكَ فِي دُنْيَاكَ وَآخِرَتِكَ؟! ذَاكَ مَحْوُ آيَةِ اللَّيْلِ».
ملاحظة
قَالَ الْمَنْصُورُ حَفِظَهُ اللَّهُ تَعَالَى: رُفَيْعٌ أَبُو كَثِيرٍ، وَيُقَالُ: أَبُو عُقْبَةَ، مِنْ بَنِي سَدُوسٍ، بَصْرِيٌّ تَابِعِيٌّ ثِقَةٌ، ذَكَرَهُ الْعِجْلِيُّ [ت٢٦١هـ][٣]، وَيُقَالُ: إِنَّهُ أَبُو كَثِيرٍ مَوْلَى الْأَنْصَارِ[٤]، وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ أَبَا كَثِيرٍ مَوْلَى الْأَنْصَارِ اسْمُهُ أَفْلَحُ، وَيُعَدُّ فِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَلَهُمْ مَوْلًى آخَرُ اسْمُهُ رَافِعٌ، وَلَا يُقَالُ لَهُ أَبُو كَثِيرٍ، وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ ابْنُ بَطَّةَ [ت٣٨٧هـ] فِي «الْإِبَانَةِ الْكُبْرَى» مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ عَطَاءٍ، ثُمَّ قَالَ: «فِيهِ زِيَادَةٌ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى: قَالَ: أَخْبِرْنَا عَنْ قَوْلِهِ: ﴿فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا﴾[٥]، قَالَ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ، سَلْ تَفَقُّهًا، وَلَا تَسْأَلْ تَعَنُّتًا، سَلْ عَمَّا يَعْنِيكَ، وَدَعْ مَا لَا يَعْنِيكَ -وَذَكَرَ الْحَدِيثَ»[٦]، وَفِيهِ ذَمُّ السُّؤَالِ عَمَّا لَا يَنْفَعُ، وَهُوَ مَا لَا يُسْئَلُ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، مِثْلَ السَّوَادِ الَّذِي فِي الْقَمَرِ، وَقَدْ تَوَاتَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَتَعَوَّذُ بِاللَّهِ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ، رَوَاهُ عَنْهُ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَزَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَعَائِشَةُ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَإِذَا جَمَاعَةٌ قَدْ أَطَافُوا بِرَجُلٍ، فَقَالَ: «مَا هَذَا؟»، قَالُوا: عَلَّامَةٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «وَمَا الْعَلَّامَةُ؟»، قَالُوا: رَجُلٌ عَالِمٌ بِأَيَّامِ النَّاسِ، وَعَالِمٌ بِالْعَرَبِيَّةِ، وَعَالِمٌ بِالْأَشْعَارِ، وَعَالِمٌ بِأَنْسَابِ الْعَرَبِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «هَذَا عِلْمٌ لَا يَنْفَعُ، وَجَهْلٌ لَا يَضُرُّ»، ثُمَّ قَالَ: «الْعِلْمُ ثَلَاثَةٌ: آيَةٌ مُحْكَمَةٌ، أَوْ سُنَّةٌ قَائِمَةٌ، أَوْ فَرِيضَةٌ عَادِلَةٌ، وَمَا خَلَاهُنَّ فَهُوَ فَضْلٌ»[٧]، وَالْآيَةُ الْمُحْكَمَةُ مَا أَثْبَتَهُ كِتَابُ اللَّهِ، وَالسُّنَّةُ الْقَائِمَةُ مَا أَثْبَتَهُ رَسُولُ اللَّهِ، وَالْفَرِيضَةُ الْعَادِلَةُ مَا أَثْبَتَهُ خَلِيفَةُ اللَّهِ، وَالْعِلْمُ الَّذِي يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ هُوَ الْعِلْمُ بِهَذِهِ الثَّلَاثَةِ، وَعَنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ فَلْيَسْأَلِ السَّائِلُونَ، وَقَدْ عُبِّرَ عَنْهَا بِعِبَارَةٍ أُخْرَى فِيمَا رَوَاهُ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، قَالَ: «وَجَدْتُ عِلْمَ النَّاسِ كُلَّهُ فِي أَرْبَعٍ: أَوَّلُهَا أَنْ تَعْرِفَ رَبَّكَ، وَالثَّانِي أَنْ تَعْرِفَ مَا صَنَعَ بِكَ، وَالثَّالِثُ أَنْ تَعْرِفَ مَا أَرَادَ مِنْكَ، وَالرَّابِعُ أَنْ تَعْرِفَ مَا يُخْرِجُكَ مِنْ دِينِكَ»[٨]، فَأَرَادَ بِالْأَوَّلِ مَعْرِفَةَ صِفَاتِ اللَّهِ، وَبِالثَّانِي مَعْرِفَةَ أَفْعَالِهِ، وَبِالثَّالِثِ مَعْرِفَةَ فَرَائِضِهِ، وَبِالرَّابِعِ مَعْرِفَةَ مُحَرَّمَاتِهِ، وَقَدْ يُرَادُ بِالْعِلْمِ الَّذِي لَا يَنْفَعُ مَعْنًى آخَرُ، وَهُوَ الْعِلْمُ الَّذِي لَا يَعْمَلُ بِهِ صَاحِبُهُ؛ كَمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَثَلُ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ كَمَثَلِ كَنْزٍ لَا يُنْفَقُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ»[٩]، وَعَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «رُبَّ عَالِمٍ قَدْ قَتَلَهُ جَهْلُهُ، وَعِلْمُهُ مَعَهُ لَا يَنْفَعُهُ»[١٠]، وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ مِنْ شَرِّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَالِمًا لَا يَنْتَفِعُ بِعِلْمِهِ»[١١]، وَرُوِيَ مَرْفُوعًا: «إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ قَتَلَ نَبِيًّا، أَوْ قَتَلَهُ نَبِيٌّ، أَوْ قَتَلَ أَحَدَ وَالِدَيْهِ، وَالْمُصَوِّرُونَ، وَعَالِمٌ لَمْ يَنْتَفِعْ بِعِلْمِهِ»[١٢]، وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ فِي سَوَادِ الْقَمَرِ فَالْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنَّهُ تَحْرِيفٌ مِنَ الرُّوَاةِ؛ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ الْآيَةِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ رِوَايَةُ الطَّبَرِيِّ [ت٣١٠هـ] بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِعَلِيٍّ: مَا السَّوَادُ الَّذِي فِي الْقَمَرِ؟ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: ﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ ۖ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً﴾[١٣]»[١٤]، فَاكْتَفَى بِقِرَاءَةِ الْآيَةِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْمُهِمَّ الَّذِي حَدَّثَ اللَّهُ عَنْهُ كَوْنُ اللَّيْلِ آيَةً مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، دُونَ سَوَادِ الْقَمَرِ؛ كَمَا يَظْهَرُ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ لِلسَّائِلِ: «قَاتَلَكَ اللَّهُ، هَلَّا سَأَلْتَ عَنْ أَمْرِ دِينِكَ وَآخِرَتِكَ؟!»، فَظَنَّ النَّاسُ أَنَّهُ عَنَى أَنَّ الْآيَةَ تُشِيرُ إِلَى سَوَادِ الْقَمَرِ، فَرَوَوْا عَنْهُ مَا ظَنُّوا أَنَّهُ عَنَاهُ، وَهَذَا مِنْ مَفَاسِدِ الرِّوَايَةِ بِالْمَعْنَى، وَالظَّاهِرُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ اللَّيْلَ مُظْلِمًا، وَسَوَادُ الْقَمَرِ حُمَمٌ مُجَمَّدَةٌ، وَلَيْسَ لَهُ فِي ذَلِكَ أَثَرٌ كَبِيرٌ.