الحديث ٨
سرور النّبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم بالسؤال
رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ [ت١٨١هـ] فِي «الزُّهْدِ وَالرَّقَائِقِ»[١]، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ بَهْرَامَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ غَنْمٍ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ،
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ بِوَجْهِهِ، فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، اسْمَعُوا، وَاعْقِلُوا، وَاعْلَمُوا، أَنَّ لِلَّهِ عِبَادًا لَيْسُوا بِأَنْبِيَاءَ وَلَا شُهَدَاءَ، يَغْبِطُهُمُ الْأَنْبِيَاءُ وَالشُّهَدَاءُ عَلَى مَجَالِسِهِمْ وَقُرْبِهِمْ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ»، فَجَذَا رَجُلٌ مِنَ الْأَعْرَابِ مِنْ قَاصِيَةِ النَّاسِ، وَأَلْوَى بِيَدِهِ إِلَى نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، نَاسٌ مِنَ النَّاسِ، لَيْسُوا بِأَنْبِيَاءَ وَلَا شُهَدَاءَ، يَغْبِطُهُمُ الْأَنْبِيَاءُ وَالشُّهَدَاءُ عَلَى مَجَالِسِهِمْ وَقُرْبِهِمْ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى؟! انْعَتْهُمْ لَنَا، جَلِّهِمْ لَنَا، شَكِّلْهُمْ لَنَا، قَالَ: فَسُرَّ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ بِسُؤَالِ الْأَعْرَابِيِّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «هُمْ نَاسٌ مِنْ أَفْنَاءِ النَّاسِ، وَنَوَازِعِ الْقَبَائِلِ، لَمْ تَصِلْ بَيْنَهُمْ أَرْحَامٌ مُتَقَارِبَةٌ، تَحَابُّوا فِي اللَّهِ وَتَصَافَوْا فِيهِ، يَضَعُ اللَّهُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ، فَيُجْلِسُهُمْ عَلَيْهَا، وَيَجْعَلُ وُجُوهَهُمْ نُورًا وَثِيَابَهُمْ نُورًا، يَفْزَعُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يَفْزَعُونَ، وَهُمْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ الَّذِينَ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ».
الشاهد ١
وَرَوَى مَعْمَرُ بْنُ رَاشِدٍ [ت١٥٣هـ] فِي «الْجَامِعِ»[٢]، عَنِ ابْنِ أَبِي حُسَيْنٍ، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾[٣]، قَالُوا: فَنَحْنُ لَا نَسْأَلُهُ إِذًا،[٤] قَالَ: «إِنَّ لِلَّهِ عِبَادًا لَيْسُوا بِأَنْبِيَاءَ وَلَا شُهَدَاءَ، يَغْبِطُهُمُ النَّبِيُّونَ وَالشُّهَدَاءُ بِقُرْبِهِمْ وَمَقْعَدِهِمْ مِنَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»، قَالَ: وَفِي نَاحِيَةِ الْقَوْمِ أَعْرَابِيٌّ، فَقَامَ فَحَثَى عَلَى وَجْهِهِ، وَرَمَى بِيَدَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: حَدِّثْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ عَنْهُمْ، مَنْ هُمْ؟ قَالَ: فَرَأَيْتُ وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَبْشَرَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «هُمْ عِبَادٌ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ، مِنْ بُلْدَانٍ شَتَّى، وَقَبَائِلَ شَتَّى، مِنْ شُعُوبِ الْقَبَائِلِ، لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ أَرْحَامٌ يَتَوَاصَلُونَ بِهَا، وَلَا دُنْيَا يَتَبَاذَلُونَ بِهَا، يَتَحَابُّونَ بِرُوحِ اللَّهِ، يَجْعَلُ اللَّهُ وُجُوهَهُمْ نُورًا، وَيَجْعَلُ لَهُمْ مَنَابِرَ مِنْ لُؤْلُؤٍ قُدَّامَ الرَّحْمَنِ، يَفْزَعُ النَّاسُ وَلَا يَفْزَعُونَ، وَيَخَافُ النَّاسُ وَلَا يَخَافُونَ».
الشاهد ٢
وَرَوَى أَبُو يَعْلَى [ت٣٠٧هـ] فِي «مُسْنَدِهِ»[٥]، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْجُشَمِيُّ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا عَوْفٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الْمِنْهَالِ، حَدَّثَنَا شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ، قَالَ: كَانَ مِنَّا -مَعْشَرَ الْأَشْعَرِيِّينَ- رَجُلٌ قَدْ صَحِبَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وَشَهِدَ مَعَهُ مَشَاهِدَهُ الْحَسَنَةَ الْجَمِيلَةَ، مَالِكٌ أَوِ ابْنُ مَالِكٍ -شَكَّ عَوْفٌ- فَأَتَانَا يَوْمًا فَقَالَ: أَتَيْتُكُمْ لِأُعَلِّمَكُمْ وَأُصَلِّيَ بِكُمْ كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي بِنَا، فَدَعَا بِجَفْنَةٍ عَظِيمَةٍ، فَجَعَلَ فِيهَا مِنَ الْمَاءِ، ثُمَّ دَعَا بِإِنَاءٍ صَغِيرٍ، فَجَعَلَ يُفْرِغُ فِي الْإِنَاءِ الصَّغِيرِ عَلَى أَيْدِينَا، ثُمَّ قَالَ: أَسْبِغُوا الْآنَ الْوُضُوءَ، فَتَوَضَّأَ الْقَوْمُ، ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى بِنَا صَلَاةً تَامَّةً وَجِيزَةً، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ أَقْوَامًا لَيْسُوا بِأَنْبِيَاءَ وَلَا شُهَدَاءَ، يَغْبِطُهُمُ الْأَنْبِيَاءُ وَالشُّهَدَاءُ بِمَكَانِهِمْ مِنَ اللَّهِ»، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ حَجْرَةِ الْقَوْمِ أَعْرَابِيٌّ، قَالَ: وَكَانَ يُعْجِبُنَا إِذَا شَهِدْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَكُونَ فِينَا الْأَعْرَابِيُّ، لِأَنَّهُمْ يَجْتَرِئُونَ أَنْ يَسْأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وَلَا نَجْتَرِئُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، سَمِّهِمْ لَنَا؟ قَالَ: فَرَأَيْنَا وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يَتَهَلَّلُ، قَالَ: «هُمْ نَاسٌ مِنْ قَبَائِلَ شَتَّى، يَتَحَابُّونَ فِي اللَّهِ، وَاللَّهِ إِنَّ وُجُوهَهُمْ لَنُورٌ، وَإِنَّهُمْ لَعَلَى نُورٍ، مَا يَخَافُونَ إِذَا خَافَ النَّاسُ، وَلَا يَحْزَنُونَ إِذَا حَزِنُوا».
ملاحظة
قَالَ الْمَنْصُورُ حَفِظَهُ اللَّهُ تَعَالَى: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَيُقَالُ أَنَّ شَهْرَ بْنَ حَوْشَبٍ اضْطَرَبَ فِي إِسْنَادِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ رَوَاهُ مَرَّةً عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ، وَمَرَّةً عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَمَرَّةً عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، لَكِنَّ الْأَظْهَرَ أَنَّهُمْ حَدَّثُوا بِهِ جَمِيعًا؛ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُعَاذٍ وَأَنَسٍ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِهِ، كَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَعُمَرَ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، وَأَبِي سَعِيدٍ، وَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ لِكَثْرَةِ شَوَاهِدِهِ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى حُسْنِ سُؤَالِ الْإِمَامِ عَنْ مَعَانِي كَلَامِهِ إِذَا تَشَابَهَتْ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ سُرَّ بِسُؤَالِ الْأَعْرَابِيِّ حَتَّى ظَهَرَ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ، وَغِبْطَةُ الْأَنْبِيَاءِ لِلْمُتَحَابِّينَ فِي اللَّهِ تَعْنِي إِعْجَابَهُمْ بِهِمْ إِنْ لَمْ تَكُنْ وَهْمًا مِنَ الرَّاوِي، وَيُحْتَمَلُ وَهْمُهُ لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ هُمْ خَيْرُ الْمُتَحَابِّينَ فِي اللَّهِ، وَلِذَلِكَ لَا وَجْهَ لِغِبْطَتِهِمْ لَهُمْ بِمَعْنَى تَمَنِّيهِمْ مِثْلَ مَا عِنْدَهُمْ مِنَ النِّعْمَةِ، وَلَمْ يَرِدْ ذِكْرُ الْغِبْطَةِ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ؛ كَمَا فِي رِوَايَةٍ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ رِجَالًا لَيْسُوا بِأَنْبِيَاءَ وَلَا شُهَدَاءَ، يُوضَعُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنَابِرُ مِنْ نُورٍ، وُجُوهُهُمْ مِنْ نُورٍ، يَأْمَنُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، وَمَنْ أُولَئِكَ؟ قَالَ: هُمْ نُزَّاعُ الْقَبَائِلِ، يَتَحَابُّونَ فِي اللَّهِ»[٦]، وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ لِلَّهِ جُلَسَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، عَنْ يَمِينِ الْعَرْشِ، وَكِلْتَا يَدَيِ اللَّهِ يَمِينٌ، عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ، وُجُوهُهُمْ مِنْ نُورٍ، لَيْسُوا بِأَنْبِيَاءَ وَلَا شُهَدَاءَ وَلَا صِدِّيقِينَ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ هُمْ؟ قَالَ: الْمُتَحَابُّونَ بِجِلَالِ اللَّهِ تَعَالَى»[٧]، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: لَيَبْعَثَنَّ اللَّهُ أَقْوَامًا عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ، يَغْبِطُهُمُ النَّاسُ، لَيْسُوا بِأَنْبِيَاءَ وَلَا شُهَدَاءَ، فَقَامَ أَعْرَابِيٌّ، فَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، انْعَتْهُمْ لَنَا نَعْرِفْهُمْ، قَالَ: هُمُ الْمُتَحَابُّونَ فِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ قَبَائِلَ شَتَّى»[٨]، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ نَاسًا مَا هُمْ بِأَنْبِيَاءَ وَلَا شُهَدَاءَ، يَغْبِطُهُمُ النَّاسُ لِمَكَانِهِمْ مِنَ اللَّهِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، خَبِّرْنَا مَنْ هُمْ؟ قَالَ: هُمْ قَوْمٌ تَحَابُّوا بِرُوحِ اللَّهِ، عَلَى غَيْرِ أَرْحَامٍ بَيْنَهُمْ، وَلَا أَمْوَالٍ يَتَعَاطُونَهَا، فَوَاللَّهِ إِنَّ وُجُوهَهُمْ لَنُورٌ، وَإِنَّهُمْ لَعَلَى نُورٍ، لَا يَخَافُونَ إِذَا خَافَ النَّاسُ، وَلَا يَحْزَنُونَ إِذَا حَزِنَ النَّاسُ، ثُمَّ قَرَأَ: ﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾[٩]»[١٠]، وَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ أَصَحُّ عِنْدِي -يَعْنِي فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى.