الحديث ٣٧
«لَنْ يَهْلِكَ إِمَامٌ قَطُّ إِلَّا تَرَكَ مِنْ بَعْدِهِ مَنْ يَعْلَمُ مِثْلَ عِلْمِهِ، وَيَسِيرُ مِثْلَ سِيرَتِهِ، وَيَدْعُو إِلَى مِثْلِ الَّذِي دَعَا إِلَيْهِ»
رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْكُلَيْنِيُّ [ت٣٢٩هـ] فِي «الْكَافِي»[١]، قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ؛ وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الصَّفَّارُ [ت٢٩٠هـ] فِي «بَصَائِرِ الدَّرَجَاتِ»[٢]، قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ يَزِيدَ؛ جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ مَنْصُورٍ -يَعْنِي ابْنَ يُونُسَ بُزُرْجَ-، عَنْ فُضَيْلٍ الْأَعْوَرِ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ الْحَذَّاءِ، قَالَ:
كُنَّا زَمَانَ أَبِي جَعْفَرٍ -يَعْنِي مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ- عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ قُبِضَ نَتَرَدَّدُ كَالْغَنَمِ لَا رَاعِيَ لَهَا، فَلَقِيَنَا سَالِمُ بْنُ أَبِي حَفْصَةَ، فَقَالَ لِي: «يَا أَبَا عُبَيْدَةَ، مَنْ إِمَامُكَ؟» فَقُلْتُ: «أَئِمَّتِي آلُ مُحَمَّدٍ»، فَقَالَ: «هَلَكْتَ وَأَهْلَكْتَ! أَمَا سَمِعْتُ أَنَا وَأَنْتَ أَبَا جَعْفَرٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقُولُ: <مَنْ مَاتَ وَلَيْسَ عَلَيْهِ إِمَامٌ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً>؟» فَقُلْتُ: «بَلَى، لَعَمْرِي»، وَلَقَدْ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ بِثَلَاثٍ أَوْ نَحْوِهَا دَخَلْتُ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ -يَعْنِي جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَرَزَقَ اللَّهُ الْمَعْرِفَةَ، فَقُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِنَّ سَالِمًا قَالَ لِي كَذَا وَكَذَا»، فَقَالَ: «يَا أَبَا عُبَيْدَةَ، إِنَّهُ لَا يَمُوتُ مِنَّا مَيِّتٌ حَتَّى يُخَلِّفَ مِنْ بَعْدِهِ مَنْ يَعْمَلُ بِمِثْلِ عَمَلِهِ، وَيَسِيرُ بِسِيرَتِهِ، وَيَدْعُو إِلَى مَا دَعَا إِلَيْهِ، يَا أَبَا عُبَيْدَةَ، إِنَّهُ لَمْ يَمْنَعْ مَا أُعْطِيَ دَاوُدُ أَنْ أُعْطِيَ سُلَيْمَانُ».
الشاهد ١
وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ بَابَوَيْهِ [ت٣٨١هـ] فِي «كَمَالِ الدِّينِ وَتَمَامِ النِّعْمَةِ»[٣]، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْوَلِيدِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الصَّفَّارُ، وَسَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ الْحِمْيَرِيُّ، جَمِيعًا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ أَبِي الْخَطَّابِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ النُّعْمَانِ، عَنْ فُضَيْلِ بْنِ عُثْمَانَ الْأَعْوَرِ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «جُعِلْتُ فِدَاكَ، إِنَّ سَالِمَ بْنَ أَبِي حَفْصَةَ يَلْقَانِي وَيَقُولُ لِي: أَلَسْتُمْ تَرْوُونَ: <أَنَّ مَنْ مَاتَ وَلَيْسَ لَهُ إِمَامٌ فَمَوْتَتُهُ مَوْتَةٌ جَاهِلِيَّةٌ>؟ فَأَقُولُ لَهُ: بَلَى، فَيَقُولُ لِي: قَدْ مَضَى أَبُو جَعْفَرٍ، فَمَنْ إِمَامُكُمُ الْيَوْمَ؟ فَأَكْرَهُ جُعِلْتُ فِدَاكَ أَنْ أَقُولَ لَهُ: جَعْفَرٌ، فَأَقُولُ لَهُ: أَئِمَّتِي آلُ مُحَمَّدٍ، فَيَقُولُ لِي: مَا أَرَاكَ صَنَعْتَ شَيْئًا!» فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «وَيْحَ سَالِمِ بْنِ أَبِي حَفْصَةَ، وَهَلْ يَدْرِي سَالِمٌ مَا مَنْزِلَةُ الْإِمَامِ؟! إِنَّ مَنْزِلَةَ الْإِمَامِ أَعْظَمُ مِمَّا يَذْهَبُ إِلَيْهِ سَالِمٌ وَالنَّاسُ أَجْمَعُونَ، وَإِنَّهُ لَنْ يَهْلِكَ مِنَّا إِمَامٌ قَطُّ إِلَّا تَرَكَ مِنْ بَعْدِهِ مَنْ يَعْلَمُ مِثْلَ عِلْمِهِ، وَيَسِيرُ مِثْلَ سِيرَتِهِ، وَيَدْعُو إِلَى مِثْلِ الَّذِي دَعَا إِلَيْهِ، وَإِنَّهُ لَمْ يَمْنَعِ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ مَا أَعْطَى دَاوُدَ أَنْ أَعْطَى سُلَيْمَانَ أَفْضَلَ مِنْهُ».
ملاحظة
قَالَ الْمَنْصُورُ حَفِظَهُ اللَّهُ تَعَالَى: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَقَدْ رَوَاهُ بَعْضُهُمْ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ:
الشاهد ٢
كَمَا رَوَى الصَّفَّارُ [ت٢٩٠هـ] فِي «بَصَائِرِ الدَّرَجَاتِ»[٤]، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، عَنِ الْبَرْقِيِّ -يَعْنِي مُحَمَّدَ بْنَ خَالِدٍ-، عَنْ فَضَالَةَ بْنِ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي جَعْفَرٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِنَّ سَالِمَ بْنَ أَبِي حَفْصَةَ قَالَ: أَمَا بَلَغَكَ: <أَنَّهُ مَنْ مَاتَ لَيْسَ لَهُ إِمَامٌ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً>؟ فَقُلْتُ: بَلَى، فَقَالَ: مَنْ إِمَامُكَ؟ قُلْتُ: أَئِمَّتِي آلُ مُحَمَّدٍ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَسْمَعُكَ عَرَفْتَ إِمَامًا!» فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «وَيْحَ سَالِمٍ، يَدْرِي سَالِمٌ مَا مَنْزِلَةُ الْإِمَامِ؟! الْإِمَامُ أَعْظَمُ وَأَفْضَلُ مِمَّا يَذْهَبُ إِلَيْهِ سَالِمٌ وَالنَّاسُ أَجْمَعُونَ، وَإِنَّهُ لَمْ يَمُتْ مِنَّا مَيِّتٌ قَطُّ إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ مَنْ يَعْمَلُ مِثْلَ عَمَلِهِ، وَيَسِيرُ بِسِيرَتِهِ، وَيَدْعُو إِلَى مِثْلِ الَّذِي دَعَا إِلَيْهِ، وَإِنَّهُ لَمْ يَمْنَعِ اللَّهَ مَا أَعْطَى دَاوُدَ أَنْ يُعْطِيَ سُلَيْمَانَ أَفْضَلَ مِمَّا أَعْطَى دَاوُدَ».
ملاحظة
قَالَ الْمَنْصُورُ حَفِظَهُ اللَّهُ تَعَالَى: هَكَذَا رَوَاهُ بَعْضُهُمْ، وَهُوَ خَطَأٌ عَلَى الْأَظْهَرِ، وَاضْطَرَبُوا فِي قَوْلِ سَالِمِ بْنِ أَبِي حَفْصَةَ؛ فَرَوَى بَعْضُهُمْ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مُنْكِرًا لِإِمَامَةِ جَعْفَرٍ، فَاسْتَهْزَأَ بِأَبِي عُبَيْدَةَ، وَرَوَى بَعْضُهُمْ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ عَارِفًا بِهَا، فَوَبَّخَ أَبَا عُبَيْدَةَ لِظَنِّهِ أَنَّهُ غَيْرُ عَارِفٍ؛ كَمَا قَالَ لَهُ فِي رِوَايَةٍ: «أَمَا سَمِعْتُ وَأَنْتَ مَعِي أَبَا جَعْفَرٍ وَهُوَ يَقُولُ: <مَنْ مَاتَ وَلَيْسَ عَلَيْهِ امَامٌ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً>؟ أَمَا تَعْرِفُ أَنَّهُ قَدْ خَلَّفَ وَلَدَهُ جَعْفَرًا إِمَامًا عَلَى الْأَمَةِ؟»[٥]، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ، لَوْلَا قَوْلُ جَعْفَرٍ فِي ذَمِّهِ.
الشاهد ٣
وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْعُكْبَرِيُّ [ت٤١٣هـ] فِي «أَمَالِيهِ»[٦]، قَالَ: أَخْبَرَنِي الْمُظَفَّرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَلْخِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَلِيٍّ مُحَمَّدُ بْنُ هَمَّامٍ الْإِسْكَافِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو جَعْفَرٍ أَحْمَدُ بْنُ مَابُنْدَارَ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ الْعَبَّاسِ الْقَصْبَانِيِّ، حَدَّثَهُمْ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ الْخَزَّازِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي حَفْصَةَ، قَالَ: لَمَّا هَلَكَ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْبَاقِرُ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ قُلْتُ لِأَصْحَابِي: «انْتَظِرُونِي حَتَّى أَدْخُلَ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ فَأُعَزِّيَهُ»، فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ فَعَزَّيْتُهُ، ثُمَّ قُلْتُ: «إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، ذَهَبَ وَاللَّهِ مَنْ كَانَ يَقُولُ: <قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ>، فَلَا يُسْئَلُ عَمَّنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، لَا وَاللَّهِ لَا يُرَى مِثْلُهُ أَبَدًا»! قَالَ: فَسَكَتَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ: «قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِنَّ مِنْ عِبَادِي مَنْ يَتَصَدَّقُ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَأُرَبِّيهَا لَهُ فِيهَا، كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلْوَهُ حَتَّى أَجْعَلَهَا لَهُ مِثْلَ أُحُدٍ»، فَخَرَجْتُ إِلَى أَصْحَابِي، فَقُلْتُ: «مَا رَأَيْتُ أَعْجَبَ مِنْ هَذَا! كُنَّا نَسْتَعْظِمُ قَوْلَ أَبِي جَعْفَرٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: <قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ> بِلَا وَاسِطَةٍ، فَقَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: <قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ> بِلَا وَاسِطَةٍ!»
ملاحظة
قَالَ الْمَنْصُورُ حَفِظَهُ اللَّهُ تَعَالَى: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ جَاهِلًا بِجَلَالَةِ جَعْفَرٍ، فَاسْتَبْصَرَ، فَإِنْ كَانَ قَوْلُهُ لِأَبِي عُبَيْدَةَ قَبْلَ هَذَا فَلَعَلَّهُ كَانَ مِنْ بَابِ الْإِنْكَارِ وَالْإِسْتِهْزَاءِ، وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنَّهُ كَانَ بَعْدَ هَذَا، وَإِنَّمَا ذَمَّهُ جَعْفَرٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَكَانَ يَمِيلُ إِلَى الْعَامَّةِ وَالزَّيْدِيَّةِ، وَلَعَلَّ قَوْلَهُ: «إِنَّهُ لَمْ يَمُتْ مِنَّا مَيِّتٌ قَطُّ إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ مَنْ يَعْمَلُ مِثْلَ عَمَلِهِ، وَيَسِيرُ بِسِيرَتِهِ، وَيَدْعُو إِلَى مِثْلِ الَّذِي دَعَا إِلَيْهِ، وَإِنَّهُ لَمْ يَمْنَعِ اللَّهَ مَا أَعْطَى دَاوُدَ أَنْ يُعْطِيَ سُلَيْمَانَ أَفْضَلَ مِمَّا أَعْطَى دَاوُدَ»، كَانَ رَدًّا مِنْهُ عَلَى قَوْلِهِ: «لَا وَاللَّهِ لَا يُرَى مِثْلُ أَبِي جَعْفَرٍ أَبَدًا»؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ لَا تَخْلُو مِنْ مِثْلِ أَبِي جَعْفَرٍ أَوْ أَفْضَلَ.