كما هو في تناقض واضح مع العقل؛ لأنّه من الحماقة استيجاب مبايعة المسلمين من لا يرضى حكومته إلّا واحد أو عدّة منهم؛ كما أنّه ليس من المعقول استيجاب مبايعتهم من لا يرضى حكومته إلّا الحاكم السّابق، ومن المستهجن استيجاب مبايعتهم من استولى على السّلطة بسفك دماء المسلمين.
من هنا يعلم أنّ الإستناد في أساس الحكومة في الإسلام، كالإستناد في سائر العقائد والأعمال، يجب أن يكون إلى الإسلام نفسه، لا إلى أقوال وأفعال بعض المسلمين! هذا في حين أنّ الحكومة في الإسلام نوعان لا ثالث لهما: أحدهما حكومة اللّه، والآخر حكومة الطاغوت. أمّا حكومة اللّه فهي حكومة من يحكم بأمر اللّه؛ كحكومة آل إبراهيم عليه السّلام الذين قال اللّه فيهم: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا﴾، وأمّا حكومة الطاغوت فهي حكومة من يحكم بغير أمر اللّه؛ كحكومة آل فرعون الذين قال اللّه فيهم: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ۖ﴾. بناء على هذا، فإنّ حكومة من عيّنه اللّه فيها هي حكومة اللّه، وحكومة من لم يعيّنه اللّه فيها هي حكومة الطاغوت، وهذه قاعدة بسيطة وبيّنة للغاية.
وفقًا لهذه القاعدة، كان الهدف الأسمى لجميع الأنبياء تحقيق حكومة اللّه وإلغاء حكومة الطاغوت؛ كما قال اللّه تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ۖ﴾، وبالتّالي كان هو الهدف الأسمى للنّبيّ الخاتم صلّى اللّه عليه وآله وسلّم؛ باعتبار أنّ الخضوع للحاكميّة هو في الإسلام من مصاديق العبادة، ومن رضي بحاكميّة غير اللّه فقد عبد الطاغوت في الحقيقة؛ كاليهود الذين قال اللّه فيهم: ﴿قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ ۚ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ ۚ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ﴾؛ كما أثنى اللّه على عباده المتّقين لاجتنابهم عبادة الطاغوت فقال: ﴿وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى ۚ فَبَشِّرْ عِبَادِ﴾. لذلك، فإنّ الكفر بالطاغوت شرط أساسيّ للإيمان باللّه، ومن لم يخضع لحاكميّة الطاغوت وخضع لحاكميّة اللّه فقد هُدي إلى الإسلام الأصيل الكامل؛ كما قال اللّه فيه: ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾،