أمّا رواية أهل الحديث الدّالّة على أفضليّة المسلمين الأوّلين على المسلمين الآخرين بمضمون «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ»، فلا تثبت ضرورة اتّباع المسلمين الآخرين للمسلمين الأوّلين؛ لأنّها بصرف النّظر عن تعذّر الأخذ بإطلاقها مع الإلتفات إلى وجود أئمّة النّفاق في قرن النّبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ووجود أئمّة الظّلم في القرنين من بعده، هي من ناحية خبر واحد، وبالتّالي لا تفيد اليقين، ومن ناحية أخرى تتعارض مع رواية أهل الحديث الدّالّة على أنّه ليس من المعلوم أفضليّة المسلمين الأوّلين على المسلمين الآخرين بمضمون «مَثَلُ أُمَّتِي مَثَلُ الْمَطَرِ لَا يُدْرَى أَوَّلُهَا خَيْرٌ أَوْ آخِرُهَا»، وبالتّالي تتساقط.
مع ذلك، فإنّ الحقّ هو أنّ العلم الأكثر بالشّرع عند المسلمين الأوّلين، حتّى لو كان ثابتًا، ليس قابلًا لأن يتّبعه الخلف إلّا إذا كان هناك قطع بانتقاله الصّحيح والكامل إليهم، مع أنّنا إذا أنصفنا لا نجد القطع بذلك، ولكن حسن الظنّ به فقطّ، وهو لا يكفي لمثل هذا العمل الخطير؛ كما قال اللّه تعالى: ﴿إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا ۚ﴾؛ لأنّه بالنّظر إلى وجود الإختلافات الفكريّة والسّياسيّة العميقة والواسعة بين المسلمين الأوّلين واستيلاء الحكّام الجبابرة عليهم بعد النّبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، كانت هناك دوافع كثيرة لكتمان العلم الصّحيح والكامل من قبلهم، بل ربّما كان إظهاره من قبلهم في كثير من الأحيان مستلزمًا للعسر والحرج والتخلّي عن المال والنّفس والعرض؛ بصرف النّظر عن حقيقة أنّ بعضهم على الأقلّ، خاصّة في الجيلين الثاني والثالث، كانوا يتّبعون أهواءهم ومطامع الدّنيا، وبالتّالي يكتمون علمهم متعمّدين؛ كما وردت عنهم روايات متناقضة كثيرة هم المتّهمون الرّئيسيّون فيما يتعلّق ببعضها.