نعم، لو كان من الواجب على المسلمين أن يرووا سنّة النّبيّ بشكل متواتر وينشروها في العالم كروايتهم ونشرهم للقرآن، لكان من الممكن جواز نسخ القرآن بها ووقوعه، وإن كان المسلمون لم يفعلوا ذلك؛ لأنّ تقصيرهم في ذلك لا يمنع نسخ القرآن بها، لكنّ الإنصاف أنّ رواية القرآن بشكل متواتر ونشرها في العالم، كانا نتيجة إرادة اللّه وفعله أكثر من كونهما نتيجة إرادة المسلمين وفعلهم، واستمدّا من خصائص القرآن، وتمّ بدؤهما وإدارتهما من قبل النّبيّ؛ كما قال اللّه تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾، في حين أنّ رواية سنّة النّبيّ بشكل متواتر ونشرها في العالم، لم يكن لهما مثل هذه القابليّة، ولم يتمّ بدؤهما وإدارتهما من قبل النّبيّ جنبًا إلى جنب مع القرآن. لذلك، يبدو أنّه لم يكن من المتوقّع قطّ أن تؤسّس سنّته حكمًا مخالفًا للقرآن، ومن ثمّ لم يكن هناك دافع لروايتها كرواية القرآن.
[عدم إمكان تخصيص القرآن بسنّة النّبيّ]
كما أنّ تخصيص القرآن أيضًا يجوز بالقرآن فقطّ، ولا يجوز بسنّة النّبيّ؛ لأنّ التخصيص نوع من النسخ، ولا يجوز نسخ القرآن بسنّة النّبيّ؛ كما أنّ العامّ المتواتر لا يُخصَّص بالخاصّ غير المتواتر، وتخصيص ما هو مشهور بما هو مستور ليس إنصافًا، بل هو مخالف لسيرة العقلاء؛ لأنّهم لا يخصّصون إعلاناتهم العامّة بإعلانات خاصّة، بل يخصّصونها بإعلانات عامّة، ويعذرون من يعمل وفقًا للإعلانات العامّة بعد الإعلانات الخاصّة، ومن الواضح أنّ اللّه تعالى من العقلاء، بل هو خالقهم ورئيسهم، ولذلك لا يمكن تخصيص القرآن بسنّة النّبيّ، إلّا إذا كانت سنّة متواترة ومشهورة مثل القرآن؛ إذ لا مانع من تخصيص القرآن بها في هذه الحالة، ولكن لا يخفى عدم وجود مثل هذه السّنّة؛ لأنّ أشهر الرّوايات التي تتصدّى لتخصيص القرآن ليس لها تواتر القرآن ولا شهرته، وبالتّالي ليس لها أهليّة تخصيص القرآن؛ بالنّظر إلى أنّه في حالات التعارض، لا تقدّم الرّواية الأضعف على الرّواية الأقوى، والسّنّة هي الرّواية الأضعف، والقرآن هو الرّواية الأقوى. من هنا يعلم أنّ شأن سنّة النّبيّ ليس نسخ القرآن أو تخصيصه، ولكن تبيينه من خلال بيان موضوعات الأحكام وتفاصيلها، ممّا لا يستلزم نسخ القرآن أو تخصيصه؛ كما قال اللّه تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾، فلم يقل: لتنسخ أو تخصّص لهم، ولكن قال: لتبيّن لهم، وذلك مثل بيان ركعات الصّلاة وكيفيّتها، ومتعلّقات الزكاة وكمّيّتها، وشروط الحجّ ومناسكه، وعدد أولي الأمر ومصاديقهم، ومن الواضح أنّه لا شيء من هذا يُعتبر نسخ القرآن أو تخصيصه.