يرجى التنبّه للنكات التالية:
١ . كمّيّة عدد كافٍ من المسلمين لظهور المهديّ عليه السّلام تابعة لبعض المتغيّرات، إلا أنّ الظاهر من بعض عبارات المنصور حفظه اللّه تعالى هو أنّ اجتماع عشرة آلاف منهم عنده قد يكون كافيًا؛ كما قال لجماعة من الشباب المحبّين للمهديّ: «مَنْ ذَا الَّذِي يَضْمَنُ لِي عَشَرَةَ آلَافِ رَجُلٍ فَأَضْمَنَ لَهُ ظُهُورَ الْمَهْدِيِّ؟!»، وهذا عدد اعتبره اللّه تعالى في كتابه «كثرة» إذ قال: ﴿لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ ۙ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ ۙ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ﴾؛ نظرًا لأنّ أنصار رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم يوم حنين كانوا عشرة آلاف رجل، ولذلك روي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أنّه قال: «لَا يُهْزَمُ جَيْشُ عَشَرَةِ آلَافٍ مِنْ قِلَّةٍ»، وروى أبو بصير قال: «سَأَلَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ -يَعْنِي جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ الصَّادِقَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ: كَمْ يَخْرُجُ مَعَ الْقَائِمِ -يَعْنِي الْمَهْدِيَّ- عَلَيْهِ السَّلَامُ؟ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّهُ يَخْرُجُ مَعَهُ مِثْلُ عِدَّةِ أَهْلِ بَدْرٍ ثَلَاثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةُ عَشَرَ رَجُلًا، قَالَ: وَمَا يَخْرُجُ إِلَّا فِي أُولِي قُوَّةٍ، وَمَا تَكُونُ أُولُوا الْقُوَّةِ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ آلَافٍ»، لكنّ الأهمّ من كمّيّة هذا العدد هو كيفيّتهم بمعنى حالهم وصفتهم؛ لأنّ عشرة آلاف رجل إذا كانوا ضعفاء في العقيدة والعمل لم يغنوا شيئًا، وإنّما يُعتبرون كافيًا إذا كانوا بمكان عليّ من الإيمان والتقوى؛ لأنّهم إذا كانوا كذلك بارك اللّه فيهم وأنزل عليهم النصر، فلن يُغلبوا إذًا أبدًا، وعليه فإنّ مراد المنصور حفظه اللّه تعالى هو كفاية اجتماع عشرة آلاف رجل عارف بالحقّ عن يقين قد تمّ تعليمهم وتزكيتهم في مدرسته وإعدادهم روحيًّا وجسميًّا لنصرة المهديّ عليه السّلام، لا عشرة آلاف رجل كيفما كانوا؛ كما أخبرنا بعض أصحابه، قال:
شَكَوْتُ إِلَى الْمَنْصُورِ قِلَّةَ عَدَدِنَا، فَقَالَ: قَدْ كُتِبَ هَذَا مِنْ قَبْلُ، أَنْتُمْ جَيْشُ الْغَضَبِ، تَجْتَمِعُونَ قَزَعًا كَقَزَعِ الْخَرِيفِ مِنَ الْمُدُنِ مَا بَيْنَ الْوَاحِدِ وَالْإِثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ وَالْأَرْبَعَةِ وَالْخَمْسَةِ وَالسِّتَّةِ وَالسَّبْعَةِ وَالثَّمَانِيَةِ وَالتِّسْعَةِ وَالْعَشَرَةِ حَتَّى تَكْمُلَ الْحَلْقَةُ! قُلْتُ: وَمَا الْحَلْقَةُ؟ قَالَ: عَشَرَةُ آلَافِ رَجُلٍ قُلُوبُهُمْ كَزُبَرِ الْحَدِيدِ، لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ! فَإِذَا اجْتَمَعُوا وَقَامَتْ رَايَاتُهُمْ نَزَلَ عَلَيْهِمْ جَبْرَئِيلُ وَمِيكَائِيلُ فِي جُنْدٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ.
ولذلك كتب إلى أنصاره:
هَلِ اكْتَفَيْتُمْ بِأَنْ تَعُدُّوا أَنْفُسَكُمْ أَنْصَارِي وَأَنْتُمْ لَا تَقْتَدُونَ بِي فِي الْعَمَلِ؟! أَنَّى لِيَ الْقِيَامُ عَلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ مُتَزَعْزِعُونَ لِهَذَا الْحَدِّ؟! أَيْنَ أَنْصَارِيَ الْحَقِيقِيُّونَ؟ أَيْنَ الَّذِينَ نَبَذُوا الدُّنْيَا وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ، وَتَحَرَّرُوا مِنْ كُلِّ تَعَلُّقٍ بِهَا، عَلَى مِثَالِ الْمَسِيحِ؟ أَيْنَ الَّذِينَ كَانُوا رُفَقَاءَ الْمَوْتِ، وَيَرَوْنَ اللَّهَ حَاضِرًا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ؟ يَبْكُونَ مِنْ هَوْلِ النَّارِ كَأَنَّهُمْ ثَكَالَى! يَنْظُرُونَ إِلَى أَطْرَافِ السَّمَاءِ كَأَنَّهُمْ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ فِي أَرْجَائِهَا! يَعْبُدُونَ اللَّهَ، وَيَجْتَنِبُونَ الطَّاغُوتَ. يُطِيعُونَ إِمَامَهُمْ، وَيَتَسَابَقُونَ فِي نُصْرَتِهِ. إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ زُبَرَ الْحَدِيدِ أَوْ جِبَالًا رَاسِيَةً! إِذَا هَاجَمُوا الْعَدُوَّ فِي صُفُوفِهِمْ، كَادُوا يُثِيرُونَ إِعْصَارًا وَعَاصِفَةً رَمْلِيَّةً! كَانُوا يُرَاقِبُونَ سُلُوكَهُمْ، وَيَعْرِفُونَ مَقَامَ كُلِّ مَقَالٍ. مُتَحَلِّينَ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَمُتَنَزِّهِينَ عَنْ كَبَائِرِ الرَّذَائِلِ. مَجْهُولِينَ فِي الْأَرْضِ، وَمَعْرُوفِينَ فِي السَّمَاءِ. شُعْثًا غُبْرًا صُفْرًا. لَهُمْ فِي آنَاءِ اللَّيْلِ دَوِيٌّ كَدَوِيِّ النَّحْلِ! يَقْضُونَ اللَّيْلَ بِالصَّلَاةِ وَالْإِسْتِغْفَارِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَيَقْضُونَ النَّهَارَ بِالتَّعَلُّمِ وَالْجِهَادِ وَالسَّعْيِ فِي حَوَائِجِ النَّاسِ. لَا يَمُلُّونَ وَلَا يَرْتَابُونَ. رَحِمَهُمُ اللَّهُ. فَإِنَّهُمْ قَضَوْا نَحْبَهُمْ وَذَهَبُوا، وَأَنْتُمُ الْآنَ بَقِيتُمْ لَنَا. فَاجْتَهِدُوا أَنْ تَكُونُوا لَهُمْ خَلَائِفَ صَالِحِينَ، وَاقْتَدُوا بِهِمْ، وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ لَنْ تُدْرِكُوا الْفَرَجَ حَتَّى تَكُونُوا كَذَلِكَ.
قوله: «أَنَّكُمْ لَنْ تُدْرِكُوا الْفَرَجَ حَتَّى تَكُونُوا كَذَلِكَ» صريح في اشتراط حصول هذه الكيفيّة بالإضافة إلى تلك الكمّيّة، ولذلك جعل حفظه اللّه تعالى هدفه التعليم والتزكية لعدد كافٍ من الناس، لا جمعهم فقطّ؛ كما قال بصراحة في كتاب له:
إِنَّمَا جِئْتُ لِأُصَدِّقَ خَلِيفَةَ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ، وَأُمَهِّدَ لَهُ الطَّرِيقَ، فَأَجْمَعَ لَهُ جَمْعًا، وَأُرَبِّيَهُمْ تَحْتَ جَنَاحِي، بِالْكُتُبِ وَالْحِكَمِ وَالْمَوَاعِظِ وَالْآدَابِ، كَشَمْعَةٍ تُضِيءُ فِي الظُّلْمَةِ، حَتَّى أُقَرِّبَ مَا بَعَّدْتُمُوهُ، وَأُسَهِّلَ مَا صَعَّبْتُمُوهُ، وَأَكُونَ لِلْمَظْلُومِينَ مِنْكُمْ بَشِيرًا، وَلِلظَّالِمِينَ مِنْكُمْ نَذِيرًا.
وقال في كلام له:
أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَقْتُلُونِي كَمَا قَتَلْتُمُ الصَّالِحِينَ مِنْ قَبْلِي، فَلَا تَفْعَلُوا، فَإِنِّي وَاللَّهِ لَوْ بَقِيتُ فِيكُمْ لَأَشْحَذَنَّ رِجَالًا مِنْكُمْ شَحْذَ الْقَيْنِ النَّصْلَ، أَجْلِي بِالتَّنْزِيلِ أَبْصَارَهُمْ، وَأَرْمِي بِالتَّفْسِيرِ فِي مَسَامِعِهِمْ، وَأَسْقِيهِمْ كَأْسَ الْحِكْمَةِ حَتَّى يَمْتَلِئُوا! أَلَا إِنِّي أَخْتَارُ خِيَارَكُمْ لِلْمَهْدِيِّ كَمَا يَخْتَارُ النَّحْلُ لِيَعْسُوبِهَا خِيَارَ الْأَزَاهِيرِ.
وكتب إلى أنصاره:
اسْتَمِعُوا لِقَوْلِي لِتَكْسِبُوا الْمَعْرِفَةَ، وَتَدَبَّرُوا فِيهِ لِتُؤْتَوُا الْحِكْمَةَ؛ فَإِنِّي أُرَبِّيكُمْ بِهِ كَمَا يُرَبِّي الْبُسْتَانِيُّ أَشْجَارَ الْفَاكِهَةِ، حَتَّى أَجْعَلَكُمْ جَمْعًا كَافِيًا لِخَلِيفَةِ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ.
هذا هو التمهيد لظهور المهديّ، وهذا هو مهمّة المنصور الهاشمي الخراساني.
٢ . من هنا يعلم أنّه لم يتمّ الجمع بين الكمّيّة والكيفيّة اللازمتين في عهد أحد من الخلفاء السابقين؛ بمعنى أنّ أصحابهم لم يزالوا قليلين في العدد أو ضعفاء في الإيمان والتقوى، ولم يكونوا أبدًا جامعين بين العِدّة والعُدّة الكافيتين، وهذا ما منع خلفاء اللّه من تحقيق أهدافهم؛ كما أنّ شكاوى عليّ بن أبي طالب من ضعف أصحابه وتهاونهم قد بلغت حدّ التواتر؛ منها قوله عليه السّلام: «يَا أَشْبَاهَ الرِّجَالِ وَلَا رِجَالَ! حُلُومُ الْأَطْفَالِ وَعُقُولُ رَبَّاتِ الْحِجَالِ! لَوَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أَرَكُمْ وَلَمْ أَعْرِفْكُمْ مَعْرِفَةً، وَاللَّهِ جَرَّتْ نَدَمًا وَأَعْقَبَتْ سَدَمًا، قَاتَلَكُمُ اللَّهُ، لَقَدْ مَلَأْتُمْ قَلْبِي قَيْحًا، وَشَحَنْتُمْ صَدْرِي غَيْظًا، وَجَرَّعْتُمُونِي نُغَبَ التَّهْمَامِ أَنْفَاسًا، وَأَفْسَدْتُمْ عَلَيَّ رَأْيِي بِالْعِصْيَانِ وَالْخِذْلَانِ، حَتَّى لَقَدْ قَالَتْ قُرَيْشٌ: إِنَّ ابْنَ أَبِي طَالِبٍ رَجُلٌ شُجَاعٌ، وَلَكِنْ لَا عِلْمَ لَهُ بِالْحَرْبِ! لِلَّهِ أَبُوهُمْ، وَهَلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَشَدُّ لَهَا مِرَاسًا وَأَقْدَمُ فِيهَا مَقَامًا مِنِّي؟! لَقَدْ نَهَضْتُ فِيهَا وَمَا بَلَغْتُ الْعِشْرِينَ، وَهَا أَنَا ذَا قَدْ ذَرَّفْتُ عَلَى السِّتِّينَ، وَلَكِنْ لَا رَأْيَ لِمَنْ لَا يُطَاعُ»، ومنها قوله عليه السّلام: «أَيُّهَا النَّاسُ الْمُجْتَمِعَةُ أَبْدَانُهُمُ الْمُخْتَلِفَةُ أَهْوَاؤُهُمْ! كَلَامُكُمْ يُوهِي الصُّمَّ الصِّلَابَ وَفِعْلُكُمْ يُطْمِعُ فِيكُمُ الْأَعْدَاءَ! تَقُولُونَ فِي الْمَجَالِسِ كَيْتَ وَكَيْتَ، فَإِذَا جَاءَ الْقِتَالُ قُلْتُمْ حِيدِي حَيَادِ! مَا عَزَّتْ دَعْوَةُ مَنْ دَعَاكُمْ، وَلَا اسْتَرَاحَ قَلْبُ مَنْ قَاسَاكُمْ! أَعَالِيلُ بِأَضَالِيلَ! وَسَأَلْتُمُونِي التَّطْوِيلَ دِفَاعَ ذِي الدَّيْنِ الْمَطُولِ! لَا يَمْنَعُ الضَّيْمَ الذَّلِيلُ، وَلَا يُدْرَكُ الْحَقُّ إِلَّا بِالْجِدِّ. أَيَّ دَارٍ بَعْدَ دَارِكُمْ تَمْنَعُونَ؟! وَمَعَ أَيِّ إِمَامٍ بَعْدِي تُقَاتِلُونَ؟! الْمَغْرُورُ وَاللَّهِ مَنْ غَرَرْتُمُوهُ، وَمَنْ فَازَ بِكُمْ فَقَدْ فَازَ وَاللَّهِ بِالسَّهْمِ الْأَخْيَبِ، وَمَنْ رَمَى بِكُمْ فَقَدْ رَمَى بِأَفْوَقَ نَاصِلٍ! أَصْبَحْتُ وَاللَّهِ لَا أُصَدِّقُ قَوْلَكُمْ، وَلَا أَطْمَعُ فِي نَصْرِكُمْ، وَلَا أُوعِدُ الْعَدُوَّ بِكُمْ. مَا بَالُكُمْ؟! مَا دَوَاؤُكُمْ؟! مَا طِبُّكُمْ؟! الْقَوْمُ رِجَالٌ أَمْثَالُكُمْ، أَقَوْلًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَغَفْلَةً مِنْ غَيْرِ وَرَعٍ وَطَمَعًا فِي غَيْرِ حَقٍّ؟!»، ومنها قوله عليه السّلام: «أَمَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيَظْهَرَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ عَلَيْكُمْ، لَيْسَ لِأَنَّهُمْ أَوْلَى بِالْحَقِّ مِنْكُمْ، وَلَكِنْ لِإِسْرَاعِهِمْ إِلَى بَاطِلِ صَاحِبِهِمْ وَإِبْطَائِكُمْ عَنْ حَقِّي، وَلَقَدْ أَصْبَحَتِ الْأُمَمُ تَخَافُ ظُلْمَ رُعَاتِهَا وَأَصْبَحْتُ أَخَافُ ظُلْمَ رَعِيَّتِي! اسْتَنْفَرْتُكُمْ لِلْجِهَادِ فَلَمْ تَنْفِرُوا، وَأَسْمَعْتُكُمْ فَلَمْ تَسْمَعُوا، وَدَعَوْتُكُمْ سِرًّا وَجَهْرًا فَلَمْ تَسْتَجِيبُوا، وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَلَمْ تَقْبَلُوا! أَشُهُودٌ كَغُيَّابٍ وَعَبِيدٌ كَأَرْبَابٍ؟! أَتْلُو عَلَيْكُمُ الْحِكَمَ فَتَنْفِرُونَ مِنْهَا، وَأَعِظُكُمْ بِالْمَوْعِظَةِ الْبَالِغَةِ فَتَتَفَرَّقُونَ عَنْهَا، وَأَحُثُّكُمْ عَلَى جِهَادِ أَهْلِ الْبَغْيِ فَمَا آتِي عَلَى آخِرِ قَوْلِي حَتَّى أَرَاكُمْ مُتَفَرِّقِينَ! أَيَادِيَ سَبَا تَرْجِعُونَ إِلَى مَجَالِسِكُمْ وَتَتَخَادَعُونَ عَنْ مَوَاعِظِكُمْ! أُقَوِّمُكُمْ غُدْوَةً وَتَرْجِعُونَ إِلَيَّ عَشِيَّةً كَظَهْرِ الْحَنِيَّةِ! عَجَزَ الْمُقَوِّمُ وَأَعْضَلَ الْمُقَوَّمُ! أَيُّهَا الْقَوْمُ الشَّاهِدَةُ أَبْدَانُهُمُ الْغَائِبَةُ عَنْهُمْ عُقُولُهُمُ الْمُخْتَلِفَةُ أَهْوَاؤُهُمُ الْمُبْتَلَى بِهِمْ أُمَرَاؤُهُمْ! صَاحِبُكُمْ يُطِيعُ اللَّهَ وَأَنْتُمْ تَعْصُونَهُ، وَصَاحِبُ أَهْلِ الشَّامِ يَعْصِي اللَّهَ وَهُمْ يُطِيعُونَهُ! لَوَدِدْتُ وَاللَّهِ أَنَّ مُعَاوِيَةَ صَارَفَنِي بِكُمْ صَرْفَ الدِّينَارِ بِالدِّرْهَمِ، فَأَخَذَ مِنِّي عَشَرَةَ مِنْكُمْ وَأَعْطَانِي رَجُلًا مِنْهُمْ! يَا أَهْلَ الْكُوفَةِ! مُنِيتُ مِنْكُمْ بِثَلَاثٍ وَاثْنَتَيْنِ: صُمٌّ ذَوُو أَسْمَاعٍ، وَبُكْمٌ ذَوُو كَلَامٍ، وَعُمْيٌ ذَوُو أَبْصَارٍ، لَا أَحْرَارُ صِدْقٍ عِنْدَ اللِّقَاءِ، وَلَا إِخْوَانُ ثِقَةٍ عِنْدَ الْبَلَاءِ! تَرِبَتْ أَيْدِيكُمْ! يَا أَشْبَاهَ الْإِبِلِ غَابَ عَنْهَا رُعَاتُهَا! كُلَّمَا جُمِعَتْ مِنْ جَانِبٍ تَفَرَّقَتْ مِنْ آخَرَ! وَاللَّهِ لَكَأَنِّي بِكُمْ فِيمَا إِخَالُكُمْ أَنْ لَوْ حَمِسَ الْوَغَى وَحَمِيَ الضِّرَابُ قَدِ انْفَرَجْتُمْ عَنِ ابْنِ أَبِي طَالِبٍ انْفِرَاجَ الْمَرْأَةِ عَنْ قُبُلِهَا»، هذه حال أصحاب عليّ، ولم يكن أصحاب أئمّة أهل البيت من بعده أحسن حالًا منهم؛ كما أنّ خيانة أصحاب الحسن بن عليّ معروفة، وبقاء اثنين وسبعين رجلًا للحسين بن عليّ مشهور، وكان أبو مسلم الخراساني من دعاة بني عبّاس، فربما كان طلبه من جعفر بن محمّد استبانة لنيّته على سبيل الإمتحان ليقتله أو يسجنه إذا كان راغبًا في الخلافة قبل أن يتمكّن من معارضة بني عبّاس، ولذلك رفض جعفر طلبه ولم يُظهر رغبة، وكان عصر الصفويّة غير مناسب لظهور المهديّ على عكس تصوّرك الغريب، بل كان البلاء كلّه في عصر الصفويّة؛ لأنّهم أدخلوا في الشيعة أنواع البدع والخرافات، ولم يكن اعتقاد بعض علماء الشيعة فيهم إلّا جهلًا؛ كما يعتقدون مثل ذلك في الحكومة الحاليّة في إيران، مع أنّها شرّ حكومة ظهرت بين المسلمين بعد حكومة بني أميّة وبني عبّاس، وأشدّ الحكومات عداوة للمنصور حفظه اللّه تعالى الممهّد لظهور المهديّ عليه السّلام!
٣ . لقد جاءت روايات كثيرة من أئمة أهل البيت في أنّهم إذا وجدوا ما يكفي من الأنصار الصالحين بادروا إلى القيام، وهذه الروايات صحيحة دون أدنى شكّ؛ لأنّ أئمة أهل البيت لا يفترقون عن كتاب اللّه إلى يوم القيامة وفقًا لحديث الثقلين المتواتر، وقد أوجب كتاب اللّه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل اللّه، ولم يجعل لأحد عذرًا في تركه إلا إذا لم يجد الأسباب والمعدّات اللازمة لذلك، وعليه فلا شكّ أنّ أئمة أهل البيت لم يقعدوا عن ذلك خلال القرون الماضية إلا وهم معذورون، ومن زعم أنّهم تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل اللّه يومًا وهم يجدون فيه الأسباب والمعدّات اللازمة فقد أساء بهم الظنّ وافترى عليهم الكذب، ولا خلاف في أنّ المهديّ إمام من أئمة أهل البيت، وعليه فلا ينبغي الشكّ في حتميّة ظهوره في يوم يجد فيه الأسباب والمعدّات اللازمة، وهذا يعني أنّها لم تتوفّر له بعد؛ لأنّه لمّا يجتمع له عدد كافٍ من الأنصار الصالحين؛ كما أشار المنصور حفظه اللّه تعالى في كتابه الشريف «العودة إلى الإسلام» إلى هذا الأمر فقال:
إنّ عامّة المسلمين الآن يريدون حكّامًا غير المهديّ، ويحفظونهم ويعينونهم ويطيعونهم بدلًا منه، ولا يوجد فيهم عدد كافٍ لحفظ المهديّ وإعانته وطاعته، وإن كان فيهم عدد كافٍ لذلك فهم متفرّقون في أطراف الأرض منفصلين عن بعضهم البعض، ومن الواضح أنّ كلّ واحد منهم بمفرده وبمعزل عن الآخرين غير قادر على حفظ المهديّ، ومن ثمّ فإنّ اجتماعهم لذلك ضروريّ، في حين أنّه لا يوجد من يجمعهم لذلك، وقد تسبّب هذا في عدم ظهور المهديّ حتّى إلى حدّ الوصول إليه. هذا هو السّبب في أنّني أسير في أطراف الأرض منذ حين من الدّهر طالبًا لرجال صالحين، حتّى أجمع منهم عدّة كافية، وأُعدّهم لحفظ المهديّ وإعانته وطاعته، لعلّ اللّه إذا علم منهم اجتماعًا واستعدادًا، أتاح لهم الوصول إلى المهديّ، ثمّ هيّأ الظروف لحكومته، فيكون ذلك تمهيدًا لظهوره؛ بالنّظر إلى أنّه إذا تمّ ذلك اليوم، فإنّه سيظهر غدًا بلا شكّ، بل سيتيسّر الوصول إليه في هذه الليلة؛ لأنّ اللّه لا يظلم قدر ساعة، وذلك كقوله تعالى: ﴿فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ۖ وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾، ولكنّني حتّى الآن كلّما بحثت أكثر وجدت أقلّ، لدرجة أنّني عدت سئمًا خائبًا؛ لأنّ الأرض كأنّها قد خلت من الصّالحين!
إن شكوى المنصور الهاشمي الخراساني هذه تشبه شكوى عليّ بن أبي طالب وشكوى الحسن والحسين وشكوى سائر أئمة أهل البيت عليهم السلام، بل هي امتداد تلك الشكوى، ولذلك يمكن القول أنّه لا خصيصة لأهل زماننا إلّا أنّهم أحياء بخلاف السابقين، ولهم الفرصة والإستطاعة للإعتبار بتجربة السابقين والعدول عن طريقهم المظلم وتدارك أخطائهم المتتابعة، وهذا يكفي لنا أن نرجو ونسعى؛ خاصّة بالنظر إلى أنّ واجبنا هو السعي إلى إظهار المهديّ عليه السّلام بغضّ النظر عن حصول النتيجة؛ لأنّ حصول النتيجة ليس بأيدينا، وإنّما يرجع إلى إرادة أهل زماننا وعملهم، فإن وُجد فيهم عدد كافٍ يجيبون دعوتنا ويتعاونون معنا فسيؤدّي سعينا إلى ظهور المهديّ عليه السّلام، لا بمعنى أنّ ذلك هو العلّة التامّة؛ لأنّ عشرة آلاف رجل، مهما كان لهم من إيمان وتقوى، لا يستطيعون الغلبة على جنود الكفر والنفاق والظلم وهم قد ملؤوا الدّنيا إلا أن يؤيّدهم اللّه بنصره، بل بمعنى أنّ اجتماعهم هو شرط نزول نصر اللّه، وهذا النصر الإلهيّ هو السبب المباشر لغلبتهم؛ كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ﴾، وقال: ﴿إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ﴾، وقال: ﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾، وقال: ﴿بَلَى ۚ إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ﴾، وقال: ﴿فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ﴾، وهذه نقطة مهمّة للغاية أشار إليها المنصور حفظه اللّه تعالى في كثير من أقواله؛ كما أخبرنا بعض أصحابه، قال:
سَمِعْتُ الْمَنْصُورَ يَقُولُ: إِنَّ صَاحِبَكُمْ لَا يَخْرُجُ حَتَّى يَرَى الَّذِي يُحِبُّ، وَلَوْ صَارَ أَنْ يَأْكُلَ أَغْصَانَ الشَّجَرِ! قُلْتُ: وَمَا الَّذِي يُحِبُّ؟ قَالَ: اجْتِمَاعُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى نُصْرَتِهِ، قُلْتُ: وَمَا فِي اجْتِمَاعِهِمْ، وَهُمُ الضُّعَفَاءُ وَالْفُقَرَاءُ؟! قَالَ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا فِيهِ، فِيهِ مِفْتَاحُ أَبْوَابِ السَّمَاءِ!
وأخبرنا بعض أصحابه، قال:
سَأَلْتُ الْمَنْصُورَ عَنِ الْمَهْدِيِّ كَيْفَ يَغْلِبُ الظَّالِمِينَ، وَلَهُمْ مَا تَرَى مِنَ الْقُوَّةِ؟ قَالَ: يَنْصُرُهُ اللَّهُ بِجُنْدٍ مِنَ الْأَرْضِ، وَجُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ، فَوَاللَّهِ لَوْ أَطَاقُوا جُنْدَ الْأَرْضِ لَا طَاقَةَ لَهُمْ بِجُنْدِ السَّمَاءِ! قُلْتُ: مَتَى يَنْزِلُ عَلَيْهِ جُنْدُ السَّمَاءِ؟ قَالَ: إِذَا حُشِرَ لَهُ جُنْدُ الْأَرْضِ.
وأخبرنا بعض أصحابه، قال:
سَمِعْتُ الْمَنْصُورَ يَقُولُ: لَا يَخْرُجُ الْمَهْدِيُّ حَتَّى يَنْزِلَ الْمَلَائِكَةُ، وَلَا يَنْزِلُونَ حَتَّى يَجْتَمِعَ الْمُؤْمِنُونَ بِخُرَاسَانَ، وَالْمُنَافِقُونَ بِالشَّامِ.
وأخبرنا بعض أصحابه، قال:
كُنْتُ عِنْدَ الْمَنْصُورِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ وَسَأَلَهُ عَنِ الْقِيَامِ، فَقَالَ: وَيْحَكَ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَقُومُ أَحَدٌ يَدْفَعُ شَرًّا وَلَا يَدْعُو إِلَى خَيْرٍ إِلَّا صَرَعَتْهُ الْبَلِيَّةُ، حَتَّى تَقُومَ عِصَابَةٌ شَهِدُوا بَدْرًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، لَا يُوَارَى قَتِيلُهُمْ، وَلَا يُدَاوَى جَرِيحُهُمْ؟ قَالَ: مَنْ هُمْ؟ قَالَ: الْمَلَائِكَةُ، قَالَ: مَتَى يَقُومُونَ؟ قَالَ: إِذَا اجْتَمَعَ الْمُؤْمِنُونَ إِلَى يَعْسُوبِهِمْ، كَمَا يَجْتَمِعُ قَزَعُ الْخَرِيفِ.
الموقع الإعلامي لمكتب المنصور الهاشمي الخراساني
قسم الردّ على الشبهات