قرأت كتاب «العودة إلى الإسلام» مرّتين بعناية. في المرّة الأولى لم أفهمه جيّدًا، ولكن في المرّة الثانية فهمته والحمد للّه. على الإنصاف أنّه كتاب متقن وبديع جدًّا وقد استفدت منه كثيرًا، إلّا أنّي لم أفهم عبارة منه، وقد ظننت أنّها تناقض، وهي عبارة السيّد العلامة: «أنّه لا تجوز إقامة الحدود الإسلاميّة للذين لا يعرفون أحكام الإسلام كلّها ولا يستطيعون تطبيقها كاملة، دون أن يكون ترك إقامة الحدود الإسلاميّة جائزًا لهم»! كيف يمكن أن تكون إقامتهم للحدود الإسلاميّة جائزة وفي نفس الوقت غير جائزة؟! هذا يبدو تناقضًا! يرجى إرشادي.
لقد أحسنت -أيّها الأخ العاقل- إذ قرأت كتاب «العودة إلى الإسلام» بعناية، ثمّ قرأته مرّة أخرى دون تقليد وتعصّب وتكبّر وتأثّر بوساوس المعاندين حتّى فهمته جيّدًا، ثمّ رجعت إلينا لنبيّن لك ما أشكل عليك منه؛ خلافًا للجهّال الذين لا يفتحونه إلّا بسوء ظنّ، ولا يقرؤونه إلا بإهمال وعجلة، ويتأثّرون بكلّ ما يجدون حوله من القيل والقال، وإذا أشكل عليهم منه شيء لم يرجعوا إلينا لنبيّن لهم، ولكن رجعوا إلى شياطينهم الذين يضلّونهم بغير علم، فيأمرونهم بالتقليد، وينهونهم عن استماع القول واتّباع أحسنه، ﴿يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا ۚ وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ۚ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ ۚ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ ۖ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾[١].
وأمّا ردًّا على سؤالك، فنقول: إنّ الوجوب والحرمة لإقامة الحدود الإسلاميّة على المقصّرين ليسا من جهة واحدة حتّى يكونا متناقضين، ولكنّهما من جهتين مختلفتين؛ كما هو الحال في اجتماع الأمر والنهي الشرعيّين في موضوع واحد، عندما يجتمع عمل واجب مثل الصلاة مع عمل حرام مثل الغصب، كمن يغصب مكان رجل بالصلاة فيه؛ لأنّه من الواضح أنّ الصلاة في هذه الحالة محرّمة من جهة أنّها غصب، وواجبة من جهة أنّها عبادة مفترضة، وليس هناك أيّ تناقض لاختلاف الجهتين، وهذه هي الحال في الوجوب والحرمة لإقامة الحدود الإسلاميّة على المقصّرين، والأشبه أنّها من باب حرمة القيام بذي المقدّمة قبل القيام بالمقدّمة؛ كما أنّ الصلاة واجبة، ولكنّها غير جائزة لمن ليس على طهارة، بحيث أنّه إذا صلّى بغير طهارة فقد أثم، وليس في هذا أيّ تناقض؛ لأنّ حرمة الصلاة في وقت وجوبها أمر عارض حدث بسوء اختيار من المكلّف. ثمّ إنّ وجوب إقامة الحدود الإسلاميّة على المسلمين هو «وجوب ضمنيّ»؛ بمعنى أنّها واجبة ضمن إقامة كلّ الإسلام، وليست واجبة على حدة؛ مثل الركوع الذي يجب إتيانه في الصلاة، ولا يعتبر واجبًا في غير الصلاة، إلّا أنّ الصلاة واجبة، فإنّ الركوع واجب بتبعها. لذلك، لو ركع تارك الصلاة فإنّه لم يصلّ بقدر ركوعه، ولم يحصل على ثواب ركوع الصلاة، بل ركوعه غير مقبول، ولا يغني من الصلاة شيئًا؛ لأنّه قد تمّ تشريعه باعتباره جزءًا من الصلاة. هذه هي الحال في إقامة الحدود الإسلاميّة؛ فإنّها واجبة ضمن إقامة كلّ الإسلام، ولا تعتبر واجبة في غيرها، إلا أنّ إقامة كلّ الإسلام واجبة، فإنّ إقامة الحدود الإسلاميّة واجبة بتبعها. لذلك، لو أقام رجل حدًّا قبل أن يقيم أحكام الإسلام المقدّمة، فإنّه لم يعدل ولم يؤجر، بل ظلم وأثم؛ لأنّ الحدّ قد تمّ تشريعه باعتبار أنّه أحد أحكام الإسلام المتناسبة، وسيقام ضمن إقامتها. هذه هي نقطة دقيقة وعميقة للغاية قام السيّد العلامة بتبيينها في مبحث «اشتراط إقامة بعض أجزاء الإسلام بإقامة كلّه» من كتاب «العودة إلى الإسلام»، حيث قال:
قد تمّ جعل الأحكام الجزائيّة للإسلام اعتبارًا للتحقّق الكامل للإسلام ومتناسبًا مع الزّمان والمكان اللّذين قد تمّ فيهما تطبيق سائر أحكام الإسلام كعوامل رادعة، ومع تطبيقها لا يوجد موجب لارتكاب الجرائم، وبالتّالي فإنّ ارتكابها في هذه الحالة أمر غير طبيعيّ ومستلزم للجزاء المقرّر. كما على سبيل المثال، قد تمّ جعل حكم قطع يد السّارق اعتبارًا للتحقّق الكامل للإسلام ومتناسبًا مع الزّمان والمكان اللّذين قد تمّ فيهما إقامة الأحكام الإقتصاديّة والإجراءات الوقائيّة للإسلام، مثل التوزيع العادل للثروة وإيتاء الزكاة والخمس، لا الزّمان والمكان اللّذين لم يتمّ فيهما إقامة أحكام الإسلام الإقتصاديّة، وتوزيع الثروة فيهما ظالم، ولا يؤتى فيهما الزكاة والخمس كما يجب، وبالتّالي فإنّ المقتضي للسرقة موجود والمانع منها مفقود. هذا يعني أنّ المرء إذا سرق في زمان لا يحكم فيه الإسلام، وفي مكان لا يتمّ فيه تطبيق أحكامه العينيّة والعامّة، فلا يستحقّ جزاء السرقة المقرّر، وتطبيقه عليه غير عادل ومخالف لمقصد الشارع. كما أنّ تطبيق الأحكام الجزائيّة الأخرى منوط بتحقّق الحكومة الإسلاميّة وتطبيق عين أحكام الإسلام وكلّها، وقبل ذلك لا يكون نافعًا ولا مناسبًا؛ لأنّ اللّه قد شرع هذه الأحكام لتُنفذ في حكومته، ومتناسبًا مع الزّمان والمكان اللّذين يتولّى زمام الأمور فيهما شخص من جانبه مع المعرفة الكاملة بكلّها والإستطاعة الكاملة لتطبيقها على مصاديقها، وبالإستناد إلى هاتين المزيّتين يحقّق حكمه ويجلّي عدله؛ كما كان المنفّذ الرئيسيّ لأحكامه في وقت نزولها النّبيّ، وكان هذا الواقع مؤثّرًا ومراعًى في تشريعها، لدرجة أنّه ليس من البعيد أنّه لو نزلت هذه الأحكام على غيره أو غير مثله، لكانت لها ماهيّة مختلفة.[٢]
الحاصل أنّه يجب على المسلمين إقامة الحدود الإسلاميّة بإظهار المهديّ عليه السلام وإيصاله إلى الحكومة، وإذا لم يفعلوا ذلك، فإنّ إقامتهم للحدود الإسلاميّة تشبه الصلاة بغير وضوء، وهذا من تأويل قول اللّه تعالى: ﴿وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى ۗ وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾[٣].