أنا قرأت كتاب «العودة إلى الإسلام» للمنصور الهاشمي الخراساني، فلم أجد فيه شيئًا يخالف الشرع والعقل؛ لأنّه لم يُذكر فيه شيء إلّا مع دليل من القرآن، أو من السنّة الثابتة، أو من العقل، ولكنّ الواقع أنّي ناولته أستاذي سماحة الشيخ ... [أحد العلماء] لينظر فيه ويخبرني برأيه، فرفضه أشدّ رفض، وبالغ في ذمّه وتنقيصه، حتّى زعم أنّه كتاب ضالّ لا يجوز قراءته! فأوقعني في الشكّ والشبهة، فلا أدري الآن أهو كتاب مفيد يدعو إلى الدّين الخالص، أم كتاب ضالّ لا يجوز قراءته!
لقد بيّنّا مرارًا أنّ تقليد العلماء، بمعنى الأخذ بآرائهم دون علم بأدلّتهم وكفايتها، حرام بيّن، وقد اعتبره اللّه نوعًا من «الشرك»؛ كما قال في وصف اليهود أنّهم ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾[١]، وروي عن عديّ بن حاتم أنّه لمّا سمع الآية «قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: وَاللَّهِ مَا كَانُوا يَعْبُدُونَهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: أَلَيْسَ إِذَا أَحَلُّوا لَهُمْ شَيْئًا اسْتَحَلُّوهُ، وَإِذَا حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ شَيْئًا حَرَّمُوهُ؟ فَقَالَ عَدِيٌّ: بَلَى، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: فَتِلْكَ عِبَادَتُهُمْ»[٢]، وروي أنّ رجلًا سأل حذيفة عن ذلك، فقال: «أَمَا إِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَصُومُونَ لَهُمْ، وَلَا يُصَلُّونَ لَهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أَحَلُّوا لَهُمْ شَيْئًا اسْتَحَلُّوهُ، وَإِذَا حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ شَيْئًا حَرَّمُوهُ، فَتِلْكَ كَانَتْ رُبُوبِيَّتَهُمْ»[٣]، وروي مثل هذا عن أهل البيت[٤]، وقيل لأبي العالية [ت٩٣هـ]: «كَيْفَ كَانَتِ الرُّبُوبِيَّةُ الَّتِي كَانَتْ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ؟ قَالَ: قَالُوا: لَنْ نَسْبِقَ أَحْبَارَنَا بِشَيْءٍ، مَا أَمَرُونَا بِهِ ائْتَمَرْنَا، وَمَا نَهَوْنَا عَنْهُ انْتَهَيْنَا لِقَوْلِهِمْ، وَهُمْ يَجِدُونَ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا أُمِرُوا بِهِ وَمَا نُهُوا عَنْهُ، فَاسْتَنْصَحُوا الرِّجَالَ، وَنَبَذُوا كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ»[٥]. هذه هي الضلالة التي انتشرت بين هذه الأمّة أيضًا كما انتشرت بين اليهود، وقد أخبر النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم عنها إذ قال: «لَتَتَّبِعُنَّ سُنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ»[٦]! لذلك يجب على كلّ مسلم أن يجتنب تقليد العلماء؛ لا سيّما علماء هذا الزمان الذين روي لهم ذمّ عظيم؛ كما روي: «سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا يَبْقَى مِنَ الْإِسْلَامِ إِلَّا اسْمُهُ، وَلَا مِنَ الْقُرْآنِ إِلَّا رَسْمُهُ، يُسَمَّوْنَ بِهِ وَهُمْ أَبْعَدُ النَّاسِ مِنْهُ، مَسَاجِدُهُمْ عَامِرَةٌ وَهِيَ خَرَابٌ مِنَ الْهُدَى، عُلَمَاءُ ذَلِكَ الزَّمَانِ شَرُّ عُلَمَاءَ تَحْتَ ظِلِّ السَّمَاءِ، مِنْهُمْ خَرَجَتِ الْفِتْنَةُ وَإِلَيْهِمْ تَعُودُ»[٧]، وروي: «يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ رُءُوسٌ جُهَّالٌ يُفْتُونَ النَّاسَ بِرَأْيِهِمْ، فَيَضِلُّونَ وَيُضِلُّونَ»[٨]، وروي: «يُوشِكُ أَنْ يَظْهَرَ شَيَاطِينُ قَدْ أَوْثَقَهَا سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْبَحْرِ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ الدِّينَ»[٩]، وقد قال عليّ عليه السلام في وصف أحدهم: «قَدْ سَمَّاهُ أَشْبَاهُ النَّاسِ عَالِمًا وَلَيْسَ بِهِ! بَكَّرَ فَاسْتَكْثَرَ مِنْ جَمْعٍ مَا قَلَّ مِنْهُ خَيْرٌ مِمَّا كَثُرَ، حَتَّى إِذَا ارْتَوَى مِنْ مَاءٍ آجِنٍ، وَاكْتَثَرَ مِنْ غَيْرِ طَائِلٍ، جَلَسَ بَيْنَ النَّاسِ قَاضِيًا ضَامِنًا لِتَخْلِيصِ مَا الْتَبَسَ عَلَى غَيْرِهِ! فَإِنْ نَزَلَتْ بِهِ إِحْدَى الْمُبْهَمَاتِ هَيَّأَ لَهَا حَشْوًا رَثًّا مِنْ رَأْيِهِ ثُمَّ قَطَعَ بِهِ! فَهُوَ مِنْ لَبْسِ الشُّبُهَاتِ فِي مِثْلِ نَسْجِ الْعَنْكَبُوتِ، لَا يَدْرِي أَصَابَ أَمْ أَخْطَأَ، فَإِنْ أَصَابَ خَافَ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَخْطَأَ، وَإِنْ أَخْطَأَ رَجَا أَنْ يَكُونَ قَدْ أَصَابَ! جَاهِلٌ خَبَّاطُ جَهَالَاتٍ، عَاشٍ رَكَّابُ عَشَوَاتٍ! لَمْ يَعَضَّ عَلَى الْعِلْمِ بِضِرْسٍ قَاطِعٍ! يَذْرُو الرِّوَايَاتِ ذَرْوَ الرِّيحِ الْهَشِيمَ! لَا مَلِيٌّ وَاللَّهِ بِإِصْدَارِ مَا وَرَدَ عَلَيْهِ، وَلَا أَهْلٌ لِمَا قُرِّظَ بِهِ! لَا يَحْسَبُ الْعِلْمَ فِي شَيْءٍ مِمَّا أَنْكَرَهُ، وَلَا يَرَى أَنَّ مِنْ وَرَاءِ مَا بَلَغَ مَذْهَبًا لِغَيْرِهِ! وَإِنْ أَظْلَمَ عَلَيْهِ أَمْرٌ اكْتَتَمَ بِهِ لِمَا يَعْلَمُ مِنْ جَهْلِ نَفْسِهِ! أَشْكُو مِنْ مَعْشَرٍ يَعِيشُونَ جُهَّالًا، وَيَمُوتُونَ ضُلَّالًا، لَيْسَ فِيهِمْ سِلْعَةٌ أَبْوَرُ مِنَ الْكِتَابِ إِذَا تُلِيَ حَقَّ تِلَاوَتِهِ، وَلَا سِلْعَةٌ أَنْفَقُ بَيْعًا وَلَا أَغْلَى ثَمَنًا مِنَ الْكِتَابِ إِذَا حُرِّفَ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَلَا عِنْدَهُمْ أَنْكَرُ مِنَ الْمَعْرُوفِ وَلَا أَعْرَفُ مِنَ الْمُنْكَرِ»[١٠]، ووصفهم المنصور حفظه اللّه تعالى في بعض رسائله، فقال:
لَا يَقْطَعُونَ مِنْ شَجَرَةِ الدِّينِ وَرَقَةً، وَلَكِنْ يَقْتَلِعُونَ جِذْرَهَا! يُخْرِجُونَ الْقَشَّةَ مِنْ أَعْيُنِ النَّاسِ، وَيَتْرُكُونَ الْجِذْعَ فِي أَعْيُنِ أَنْفُسِهِمْ! يَنُشُّونَ الذُّبَابَ مِنْ ظُهُورِ النَّاسِ، وَيَحْمِلُونَ الْجَمَلَ عَلَى ظُهُورِ أَنْفُسِهِمْ! يُزَيِّنُونَ مَظَاهِرَهُمْ، وَيُدَنِّسُونَ بَوَاطِنَهُمْ! أَمَامَ النَّاسِ أَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ، وَخَلْفَ الْجُدُرِ أَمَرُّ مِنَ الْحَنْظَلِ! يُحِبُّونَ الْحَقَّ، وَلَكِنْ لَا بِقَدْرِ السُّلْطَةِ، وَيُحِبُّونَ الْعِلْمَ، وَلَكِنْ لَا بِقَدْرِ الشُّهْرَةِ! يُرِيدُونَ الْآخِرَةَ لِغَيْرِهِمْ، وَالدُّنْيَا لِأَنْفُسِهِمْ! يَحْسَبُونَ أَنْفُسَهُمْ أَكْبَرَ مِمَّا هُمْ، وَيَعْتَبِرُونَ غَيْرَهُمْ أَصْغَرَ مِمَّا هُمْ! يُرِيدُونَ اللَّهَ لِأَنْفُسِهِمْ، وَلَا يُرِيدُونَ أَنْفُسَهُمْ لِلَّهِ! الْحِكْمَةُ وَالْجَهَالَةُ عَلَيْهِمْ سَوَاءٌ، وَالنُّورُ وَالظُّلْمَةُ عِنْدَهُمْ وَاحِدٌ! لَقَدْ غَرَّهُمْ إِطْرَاءُ الْجَهَلَةِ، وَأَعْجَبَتْهُمُ الْأَلْقَابُ الْفَاخِرَةُ! يُقَدِّمُونَ الْمَصْلَحَةَ عَلَى الشَّرِيعَةِ، وَيُؤْثِرُونَ الْمَنْفَعَةَ عَلَى الْحَقِيقَةِ! لَا يَحْسَبُونَ الْحَقَّ فِي شَيْءٍ مِمَّا يُنْكِرُونَهُ، وَلَا يَرَوْنَ أَنَّ مِنْ وَرَاءِ مَا بَلَغُوهُ مَبْلَغًا لِغَيْرِهِمْ! فَأُقْسِمُ بِاللَّهِ أَنَّهُمْ قَدْ حَذَوْا حَذْوَ عُلَمَاءِ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ، غَيْرَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُحَرِّفُونَ أَلْفَاظَ الْكِتَابِ، وَهَؤُلَاءِ يُحَرِّفُونَ مَعَانِيهِ! فَكُونُوا مِنْهُمْ عَلَى حَذَرٍ، كَيْ لَا يُضِلُّوكُمْ كَمَا أَضَلَّ الْأُمَمَ السَّابِقَةَ عُلَمَاؤُهُمْ![١١]
بناء على هذا، لم يكن من الجائز لك أن تسأل شيخك عن كتاب «العودة إلى الإسلام» لتأخذ برأيه، بل كان عليك أن تقرأه بشكل كامل وتنظر في حججه بعين التدبّر والإنصاف، لتأخذ به إن كان موافقًا للعقل والشرع، وترفضه إن كان مخالفًا للعقل والشرع، بغضّ النظر عن رأي شيخك؛ لأنّ شيخك ليس معصومًا، فمن الممكن أن يأخذه جهل أو حسد أو تعصّب أو تكبّر، فيحمله على رفض الكتاب بغير أن يكون فيه ما يقتضي ذلك عقلًا أو شرعًا، وممّا يدلّ على هذا أنّه وأمثاله من الشيوخ الذين يرفضون الكتاب، لا يذكرون عيبًا واحدًا من عيوبه المزعومة على وجه التفصيل والإستدلال، بل يكتفون برفض كلّيّ لا يختلف عن التحكّم والبهتان، كقولهم: «هذا كتاب ضالّ لا يجوز قراءته»! مع أنّه كتاب كبير مشتمل على مباحث كثيرة، كإثبات التوحيد والنبوّة والآخرة، وتبيين الصلاة والزكاة والصيام والحجّ وغير ذلك ممّا لا خلاف فيه بين المسلمين، ومباحث أخرى فيها خلاف بين الصحابة والتابعين وأهل العلم، ويجب على كلّ مسلم أن ينظر فيها بعين التحقيق، بعيدًا عن الظنّ السوء والحكم المسبّق والتعصّب المذهبيّ، ويتّبع أحسن ما قيل فيها ابتغاء مرضات اللّه؛ كما أمر اللّه بذلك إذ قال: ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ۚ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ ۖ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾[١٢].