أيّها الأخ الفهيم الراغب في الخير!
حاشا للّه أن يجعل من تاب وأصلح لمّا جاءته موعظة من ربّه كمن يصرّ مستكبرًا كأن لم يسمعها! كيف؟! وقد قال: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا﴾، وقال: ﴿مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ ۚ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾، والفرق بينهما في النواحي التالية:
١ . الذي لم يجب دعوة المنصور إلى التمهيد لظهور المهديّ هو «مقصّر» في عدم الوصول إلى المهديّ، والذي أجابها هو «قاصر»، وليس القاصر كالمقصّر. المقصّر في عدم الوصول إلى المهديّ هو غير معذور في العمل بالظنّ؛ لأنّه قد سبّب عدم حصوله على اليقين بسوء اختياره، ولكنّ القاصر في عدم الوصول إلى المهديّ هو معذور في العمل بالظنّ؛ لأنّه لم يسبّب عدم حصوله على اليقين، وإنّما سبّبه الآخرون. لذلك فإنّ الذي لم يجب دعوة المنصور إلى التمهيد لظهور المهديّ هو «ظالم»، والذي أجابها هو «مظلوم»؛ وليس المظلوم كالظالم، والظالم يحمل وزر المظلوم يوم القيامة؛ لأنّه قد اضطرّه إلى العمل بالظنّ في الحالات التي لا بدّ له فيها من ذلك، وقد كان عمل المظلوم بالظنّ في تلك الحالات مباحًا له؛ لقول اللّه تعالى: ﴿وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ ۗ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ ۗ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ﴾.
٢ . الذي لا يستطيع الوصول إلى المهديّ بسبب تقصيره، هو مكلّف بالتمهيد لظهور المهديّ قبل أن يكون مكلّفًا بالصلاة والصيام والحجّ والزكاة. فإن قام بالتمهيد لظهور المهديّ فهو معذور في العمل بالظنّ في صلاته وصيامه وحجّه وزكاته حسبما قدّمنا، وإن لم يفعل فلا يُقبل منه ما عمل فيه بالظنّ من صلاته وصيامه وحجّه وزكاته. بناء على هذا، فإنّ التمهيد لظهور المهديّ هو واجب فوريّ مقدّم على سائر الواجبات.
٣ . الذي لا يستطيع الوصول إلى المهديّ بسبب قصوره، ليس مضطرًّا إلى العمل بالظنّ في جميع الموضوعات؛ لأنّ هناك موضوعات يُعلم حكمها بآية من القرآن، أو خبر متواتر عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم وأهل بيته المطهّرين، ولا شكّ أنّ العمل فيها استنادًا إليهما لا يعتبر عملًا بالظنّ، بل هو عمل باليقين، والظاهر أنّ أركان الصلاة والصيام والحجّ والزكاة هي من تلك الموضوعات، ولذلك يجب على القاصر في عدم الوصول إلى المهديّ طلب العلم بالأحكام من خلال النظر في القرآن والسنّة، ليحصل على اليقين بقدر الإمكان. فإن قصّر في ذلك فليس بمعذور في العمل بالظنّ في الموضوعات التي يمكنه التيقّن فيها من خلال ذلك، وإن كان قاصرًا في عدم الوصول إلى المهديّ.
٤ . ليس للذي لا يستطيع الوصول إلى المهديّ بسبب قصوره أن يعمل بأخبار الآحاد في الموضوعات التي ليس فيها آية من القرآن ولا خبر متواتر عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم وأهل بيته المطهّرين؛ لأنّ الظنّ الحاصل من أخبار الآحاد لا يختلف عن الظنّ الحاصل من غيرها في الظنّيّة، وكلّ بمنزلة الشكّ من حيث عدم الدليليّة. لذلك فإنّ الذي لا يستطيع الوصول إلى المهديّ بسبب قصوره، في الموضوعات التي ليس فيها آية من القرآن ولا خبر متواتر عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم وأهل بيته المطهّرين، يلجأ إلى «الأصول العمليّة» التي يلجأ إليها العقلاء في حالات الشكّ للخروج من التحيّر والجمود، وهي البراءة والإحتياط والتخيير والإستصحاب؛ فإذا شكّوا في أصل التكليف لجؤوا إلى البراءة، وإذا شكّوا في موضوع التكليف لجؤوا إلى الإحتياط مع الإمكان، وإلى التخيير مع عدمه، وإذا شكّوا في بقاء التكليف لجؤوا إلى الإستصحاب، حتّى يأتيهم اليقين.
٥ . الذي لا يستطيع الوصول إلى المهديّ بسبب قصوره، إذا تيقّن أنّ المنصور هو المنصور الخراسانيّ المنتظَر الذي أمر النّبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم وأهل بيته المطهّرون باتّباعه في الأخبار المتواترة، يمكنه الرجوع إليه لمعرفة ما يشتبه عليه من الأحكام؛ لأنّه أعلم الناس بالأحكام بعد المهديّ، وإذا تعذّر الرجوع إلى المهديّ بسبب قصور، تعيّن الرجوع إلى أعلم الناس بعده، والرجوع إليه يغني عن الرجوع إلى سائر الناس لاستقصاء الآراء والأدلّة المؤدّي إلى العسر والحرج والتعرّض للزلّة والفتنة؛ كما أشار إلى ذلك عليّ عليه السلام في بعض خطبه عن الملاحم فقال: «اعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِنِ اتَّبَعْتُمْ طَالِعَ الْمَشْرِقِ سَلَكَ بِكُمْ مَنَاهِجَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، فَتَدَاوَيْتُمْ مِنَ الْعَمَى وَالصَّمَمِ وَالْبَكَمِ، وَكُفِيتُمْ مَؤُونَةَ الطَّلَبِ وَالتَّعَسُّفِ، وَنَبَذْتُمُ الثِّقْلَ الْفَادِحَ عَنِ الْأَعْنَاقِ».
كذلك يهدي اللّه من آمن واتّقى، ويجعل له مخرجًا ويسرًا، ويضع عنه الإصر والأغلال؛ كما قال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ﴾، وقال: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾، وقال: ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى﴾، وقال: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا﴾، وقال: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا﴾، وقال: ﴿وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ﴾، خلافًا لمن كذّب وعصى؛ كما قال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ﴾، وقال: ﴿وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى﴾، وقال: ﴿كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ﴾، وقال: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ﴾، لكي لا يكون الذي آمن واتّقى كالذي كذّب وعصى؛ كما قال: ﴿أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾، وقال: ﴿أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ﴾، وقال: ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ ۚ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾.
فقد أجبنا على سؤالك الأخير، وأقمنا عليك الحجّة من جميع الجهات؛ فإن تشكر كما عاهدت أو تكفر، فـ﴿إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾.
الموقع الإعلامي لمكتب المنصور الهاشمي الخراساني
قسم الردّ على الشبهات