المراد بـ«الذكر» في قوله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ ليس الإسلام، ولكن كتاب اللّه، كما صرّح بذلك المفسّرون بلا خلاف بينهم، ومن الواضح أنّ الإسلام غير منحصر في كتاب اللّه، بل يشمل كتاب اللّه وسنّة النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، ولذلك فإنّ اللّه قد ضمن حفظ كتابه فقطّ، ولم يضمن حفظ سنّة النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم بمعنى أحاديثه، وهذا هو المنفذ الذي دخل منه الشيطان لتبديل الإسلام؛ فإنّه زيّن للناس اتّباع أخبار الآحاد، حتّى شغلهم بها عن كتاب اللّه، ثمّ أدخل فيها ما يشاء، فأضلّهم بذلك عن الإسلام، وهم يحسبون أنّهم مهتدون، ولو شاء اللّه لحفظ أحاديث النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أيضًا لكي لا يدخل فيها كذب أو خطأ، ولكنّه أراد أن يبتلي الناس، فينظر كيف يعملون.
نعم، ليست سنّة النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ما يروي عنه الآحاد باسم الأحاديث، لكنّها ما قاله أو فعله في الواقع، وعلمه محفوظ عند خليفته، ولذلك يمكن القول بأنّ اللّه قد حفظ سنّة النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أيضًا إذ جعل له خليفة، ولكنّ الناس هجروا خليفته، واشتغلوا بالأحاديث، فضلّوا بذلك عن سنّته، وما ظلمهم اللّه، ولكن كانوا هم الظالمين.
هذا بالنسبة لسنّة النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، وأمّا بالنسبة لكتاب اللّه، فإنّهم شُغلوا عنه بالأحاديث، فلم يتدبّروا فيه ولم يعملوا به، وهكذا تركوا الإسلام كلّه، ولم يبقوا منه على شيء؛ كما وُعد ذلك من قبل، إذ قيل: «يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا يَبْقَى مِنَ الْإِسْلَامِ إِلَّا اسْمُهُ».
بناء على هذا، فإنّ عدم قيام الإسلام في زماننا لم يكن بسبب عدم حفظ القرآن والسنّة حتّى يُسأل هل كان اللّه قادرًا على حفظ دينه أم لا، ولا يزال القرآن والسنّة محفوظين، ولكنّ الناس قصّروا في العلم والعمل بهما، وهذا هو السبب في عدم قيام الإسلام.
أمّا الذين ماتوا قبل أن يعرفوا، فهم أمّة قد خلت، واللّه أعلم بعاقبتهم؛ إن يشأ يغفر لهم، وإن يشأ يعذّبهم. فإن غفر لهم فإنّما غفر لهم بفضله، لأنّه غفور رحيم، وإن عذّبهم فإنّما عذّبهم بسبب تقصيرهم في العلم والعمل، ولم يظلمهم شيئًا، وقد سأل فرعون مثل سؤالك هذا لمّا سمع دعوة موسى عليه السلام، قال: ﴿فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى﴾، فأجابه موسى عليه السلام بمثل ما أجبناك، قال: ﴿عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ ۖ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى﴾، وقد قال اللّه فيهم: ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ۖ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ ۖ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾. لذلك، ينبغي لك أن تفوّض أمرهم إلى اللّه، وتهتمّ بأمر نفسك؛ لأنّ الموت قريب جدًّا، ويمكن أن يجعل عاقبتك مثل عاقبتهم، بل أسوأ منها؛ لأنّهم ماتوا قبل أن تبلغهم دعوة المنصور، وأنت تموت بعد أن بلغتك دعوته، ولا سواء؛ كما أخبرنا بعض أصحابه، قال:
سَأَلْتُ الْمَنْصُورَ عَمَّنْ مَاتَ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ فِي هَذَا الْأَمْرِ، فَقَالَ: مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ وَلَمْ يُبَيَّنْ لَهُ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي الْحُكْمِ وَالْمُلْكِ فَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ، إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ، وَمَنْ مَاتَ بَعْدَ أَنْ أَتَاهُ الْبَيَانُ جَاحِدًا أَوْ شَاكًّا أُدْخِلَ النَّارَ خَالِدًا فِيهَا، وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهُ شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ، قُلْتُ: أَصْلَحَكَ اللَّهُ! وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمَا؟ قَالَ: أَنْزَلَ أَنَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، وَأَنَّهُ يُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ يَشَاءُ، مَا كَانَ لِلنَّاسِ الْخِيَرَةُ فِي حُكْمٍ وَلَا مُلْكٍ، ﴿سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾.
        
            الموقع الإعلامي لمكتب المنصور الهاشمي الخراساني
            قسم الردّ على الشبهات