كاتب الشبهة: إسحاق حميد تاريخ الشبهة: ١٤٣٧/١/١٤

قرأت مبحث معيار المعرفة وموانعها من كتاب «العودة إلى الإسلام»، وسائر المباحث أيضًا تحت القراءة. لقد سرّني ما حقّق المؤلّف من حجّيّة العقل وعدم جواز التقليد بأنواعه، ولكن ساءني ما قاله من استمرار الخلافة والإمامة بعد النبيّ الخاتم؛ فإنّي لا أرى ذلك عقلانيًّا، ولا موافقًا للقرآن، بل هو مخالف لعدل اللّه، وكذلك ما قاله من أنّ الخلفاء والأئمّة هم اثنا عشر؛ لأنّ مدّة هؤلاء قصيرة، وعمر الأمّة أطول من عمرهم، وكذلك ما قاله من أنّهم من أهل بيت النبيّ؛ لأنّ هذا تشبّه بسلسلة السلاطين، وهو قول ابتدعه علماء الشيعة ليخدعوا به عوامّهم وينالوا به الثروة والرئاسة. أمّا الآية «وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ»، وسائر الآيات التي استشهد بها المؤلّف على صحّة قضيّة المهديّ، فلا تدلّ عليها، وإنّما تبشّر بالتطوّر الفكري والعقليّ للبشر، وهو الذي يصلح العالم ويقضي على الظلم والتلاعب بالدّين في المستقبل.

الاجابة على الشبهة: ٣ تاريخ الاجابة على الشبهة: ١٤٣٧/١/١٥

ينبغي الإنتباه إلى النكات التالية:

أولًا من الواضح أنّ عقلانيّة عقيدة لا تعني موافقتها لأهوائك، ولكن تعني موافقتها لكتاب اللّه والسنّة المتواترة عن النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم في ضوء العقل السليم، وهي على عكس تصوّرك موجودة في العقيدة باستمرار الخلافة والإمامة بعد النبيّ الخاتم، وكون الخلفاء والأئمّة اثني عشر من أهل بيته؛ كما تبيّن ذلك بالتفصيل والإستدلال في مباحث كثيرة من الكتاب، كمبحث «إمكان إقامة كلّ الإسلام»، ومبحث «اختلاف المسلمين»، ومبحث «حاكميّة غير اللّه»، ومبحث «وجوب جعل خليفة للنّبيّ على اللّه»، ومبحث «جعل أهل بيت النّبيّ خليفة له»، ومبحث «جعل اثني عشر رجلًا من أهل بيت النّبيّ خلفاء له»، وهذا يعني أنّ ما تدّعي من مخالفة هذه العقيدة للقرآن والعقل هو مجرّد دعوى أمام الدّليل؛ كما أنّ قولك بأنّ المبحث الفلانيّ سرّني والمبحث الفلانيّ ساءني، قول يحكي عن إعجابك بنفسك، ومن أنت -يرحمك اللّه- حتّى نبالي بسرورك أو استيائك؟! إنّما يجب علينا ابتغاء مرضات اللّه، وهي تتحصّل من التمسّك بكتابه والسنّة المتواترة عن نبيّه في ضوء العقل السليم، وإن كان مخالفًا لأهوائك؛ كما قال: ﴿فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ[١]، وقال: ﴿وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ۙ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ[٢]، وقال: ﴿قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ ۙ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ[٣]، وقال: ﴿وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ ۚ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ[٤].

ثانيًا إنّ القول بأنّ الأرض لا تخلو من خليفة جعله اللّه فيها ليس من قولنا، ولكنّه من قول اللّه تعالى؛ لأنّه قال بصراحة: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً[٥]، وذلك يفيد الإستمرار؛ كما أشار إليه السيّد المنصور حفظه اللّه تعالى في تفسيره، فقال: «لَا يَزَالُ اللَّهُ يَجْعَلُ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً مُنْذُ قَالَهُ، وَلَوْ قَالَ: <إِنِّي أَجْعَلُ> لَكَانَ مِنْهُ جَعْلٌ وَاحِدٌ، وَلَكِنَّهُ قَالَ: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ، وَالْجَاعِلُ مَنْ يَسْتَمِرُّ مِنْهُ الْجَعْلُ»[٦]، وقال: «لَا يَزَالُ اللَّهُ جَاعِلًا فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً مُنْذُ وَعَدَهُ، إِمَّا ظَاهِرًا مَشْهُورًا وَإِمَّا خَائِفًا مَغْمُورًا، وَإِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ»[٧]، وقال: «سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا، وَعَدَ أَنْ يَجْعَلَ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً»[٨]. ثمّ إنّ اللّه وعد بصراحة أن يجعل في هذه الأمّة خلفاء صالحين، كما جعل في الأمم السابقة، فقال: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ[٩]، ومن الواضح أنّ اللّه لا يخلف وعده، ولذلك لا تخلو هذه الأمّة من خليفة صالح؛ كما أخبرنا بعض أصحابنا، قال:

كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ الْمَنْصُورِ، فَأَقْبَلَ عَلَيَّ وَقَالَ: يَا فُلَانُ! أَلَا تَرَى إِلَى هَؤُلَاءِ الضَّالِّينَ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُبَيِّنِ الْخِلَافَةَ فِي الْقُرْآنِ؟! أَتَرَاهُمْ يَجْهَلُونَ أَمْ يَتَجَاهَلُونَ؟! قُلْتُ: لَا أَدْرِي جُعِلْتُ فِدَاكَ، لَعَلَّهُمْ يَجْهَلُونَ، قَالَ: وَيْلَهُمْ، كَيْفَ يَجْهَلُونَ؟! وَقَدْ يَقْرَؤُونَ فِي الْقُرْآنِ قَوْلَهُ تَعَالَى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، أَيُرِيدُونَ قَوْلًا أَبْيَنَ مِنْ هَذَا؟! أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُ قَدْ أَخْلَفَ وَعْدَهُ فَلَمْ يَسْتَخْلِفْ فِيهِمْ كَمَا اسْتَخْلَفَ فِي الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ؟! قُلْتُ: وَمَنِ اسْتَخْلَفَ فِي الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ؟ قَالَ: دَاوُودَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَلَا يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي الْقُرْآنِ إِذْ يَقُولُ: ﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ[١٠]؟! فَاسْتَخْلَفَهُ وَأَمْثَالَهُ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ، قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، إِنَّهُمْ أَضَلُّ مِنْ ذَلِكَ، إِنَّهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّ اللَّهَ قَدِ اسْتَخْلَفَ فِيهِمْ كُلَّ مَنْ بَايَعُوهُ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ بِالْخِلَافَةِ! قَالَ: وَيْلَهُمْ، وَهَلْ بَايَعُوا بَعْدَ الْحَسَنِ[١١] إِلَّا كُلَّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ؟! إِنَّمَا وَعَدَ اللَّهُ أَنْ يَسْتَخْلِفَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَعِدَهُمْ خَيْرًا ثُمَّ يُعْطِيَهُمْ شَرًّا، بَلْ يُنْجِزُ وَعْدَهُ وَيَسْتَخْلِفُ فِي كُلِّ قَرْنٍ رَجُلًا مِثْلَ دَاوُودَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهُوَ أَكْثَرُهُمْ إِيمَانًا وَعَمَلًا لِلصَّالِحَاتِ، فَهَلْ يَعْرِفُونَهُ لِيَخْتَارُوهُ؟! كَلَّا، بَلِ اللَّهُ يَعْرِفُهُ وَيَخْتَارُهُ، ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ[١٢].[١٣]

فإن كان هذا القول يسوءك فإنّما يسوءك قول اللّه، ومن ساءه قول اللّه ﴿فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ[١٤]؛ كما قال تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ[١٥].

ثالثًا من الغريب جدًّا ما زعمت من أنّ استمرار الخلافة والإمامة بعد النبيّ الخاتم يخالف عدل اللّه تعالى؛ لأنّه شيء يقتضيه عدل اللّه تعالى؛ نظرًا لأنّه كلّف العباد بإقامة الدّين كلّه وعدم التفرّق فيه، إذ قال: ﴿أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ[١٦]، وذلك لا يمكن إلّا بوجود خليفة وإمام من عنده يعلّمهم الدّين كلّه ويبيّن لهم ما يختلفون فيه من القرآن والسنّة، ومن الواضح أنّ تكليفهم بما لا يمكن مخالف لعدل اللّه تعالى؛ كما أخبرنا بعض أصحابنا، قال:

سَمِعَ الْمَنْصُورُ قَارِئًا يَقْرَأُ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ، فَقَالَ: يَقْرَؤُونَ الْقُرْآنَ وَلَا يَتَدَبَّرُونَهُ، كَأَنَّهُمْ بَبَّغَاوَاتٌ نَاطِقَةٌ! أَنَّى لَهُمْ أَنْ يُقِيمُوا الدِّينَ كُلَّهُ وَلَا يَتَفَرَّقُوا فِيهِ إِلَّا إِذَا كَانَ لَهُمْ إِمَامٌ وَاحِدٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يُعَلِّمُهُمْ كُلَّهُ وَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِيمَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ؟! قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، إِنَّهُمْ يَقُولُونَ أَنَّ الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ يَكْفِيَانِهِمْ لِذَلِكَ، وَلَا حَاجَةَ لَهُمْ إِلَى مِثْلِ هَذَا الْإِمَامِ، قَالَ: وَيْلَهُمْ، أَلَيْسَ فِيهِمُ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ مُنْذُ أَرْبَعَةِ عَشَرَ قَرْنًا يَخُوضُونَ فِيهِمَا لَيْلًا وَنَهَارًا؟! فَمَا لَهُمْ لَا يُقِيمُونَ الدِّينَ كُلَّهُ وَهُمْ فِيهِ مُتَفَرِّقُونَ؟! فَهَلْ يَفْقِدُونَ إِلَّا إِمَامًا وَاحِدًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يُعَلِّمُهُمُ الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ كُلَّهُمَا وَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِيمَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ؟! وَيْلَهُمْ، كَيْفَ يَقُولُونَ أَنَّ الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ كَافِيَانِ لِإِقَامَةِ الدِّينِ؟! وَمَا الدِّينُ إِلَّا الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ، وَكَيْفَ يَقُولُونَ أَنَّهُمَا كَافِيَانِ لِرَفْعِ الْخِلَافِ؟! وَمَا الْخِلَافُ إِلَّا فِيهِمَا! ﴿أَفَلَا يَعْقِلُونَ[١٧]؟! ﴿بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ[١٨]، وَمَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا: ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ[١٩]! كَلَّا، بَلْ لَا يَزَالُونَ يُضَيِّعُونَ الدِّينَ وَيَتَفَرَّقُونَ فِيهِ حَتَّى يَجْتَمِعُوا عَلَى إِمَامٍ وَاحِدٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يُعَلِّمُهُمْ وَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ، كَمَا اجْتَمَعُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ إِذْ كَانَ فِيهِمْ.[٢٠]

رابعًا من الواضح أنّ النّاس لا يزالون يحتاجون إلى الإمام لانتظام أمورهم، ولا ينقضي احتياجهم هذا بموت النبيّ الخاتم، والإمامة في كتاب اللّه إمامتان: الإمامة بأمر اللّه، وهي مظهر حكومة اللّه ومجراها، والإمامة بغير أمر اللّه، وهي مظهر حكومة الطاغوت ومجراها؛ كما قال في آل إبراهيم: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا[٢١]، وقال في آل فرعون: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ[٢٢]، ولم يقل: ﴿بِأَمْرِنَا. لذلك، فإنّ كلّ إمام لا يهدي بأمر اللّه فهو يدعو إلى النّار، والخضوع لحاكميّته هو عبادة الطاغوت؛ كما قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا[٢٣]. هذا يعني أنّه لا بدّ أن يكون بعد النبيّ الخاتم إمام يهدي بأمر اللّه ليتّخذه النّاس إمامًا ويستغنوا به عن إمام لا يهدي بأمر اللّه، ومن الواضح أنّ أمر اللّه يُعرف بطريقتين: آية من عنده، أو نصّ من نبيّه؛ لأنّ المقصود من كون إمام يهدي بأمر اللّه هو أن يكون اللّه قد أمره بهداية النّاس وأمر النّاس بالإهتداء بهديه، وذلك لا يُعرف برأي أهل الحلّ والعقد، ولا رأي أكثر النّاس؛ لأنّهم غير معصومين من الخطأ، وقد يكون رأيهم غير صائب؛ كما بايعوا مرارًا من يفسد في الأرض ويسفك الدّماء، بل يُعرف ذلك بآية من اللّه، أو نصّ من نبيّه لا محالة، كما عُرف لطالوت؛ إذ ﴿قَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا ۚ قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ ۚ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ ۖ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ۝ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ ۚ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ[٢٤]، فجمع لهم بين آية من اللّه، ونصّ من نبيّه.

خامسًا كما أنّ إمامة الأئمّة الذين يهدون بأمر اللّه تُعرف بآية من اللّه ونصّ من نبيّه، فإنّ عدّتهم أيضًا تُعرف بآية من اللّه ونصّ من نبيّه، وقد أخبر اللّه في آية منه أنّه جعل للأمم السابقة اثني عشر إمامًا، إذ قال: ﴿وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا[٢٥]، ثمّ أخبر في آية أخرى أنّه يستخلف في هذه الأمّة كما استخلف في الأمم السابقة، فقال: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، وهذا يدلّ على أنّه يجعل لهذه الأمّة أيضًا اثني عشر إمامًا، كما جعل للأمم السابقة؛ لا سيّما بالنظر إلى قوله تعالى: ﴿سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ ۖ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا[٢٦]، وقد أخبر نبيّه أيضًا أنّ لهذه الأمّة اثني عشر إمامًا؛ كما قال: «الْخُلَفَاءُ بَعْدِي اثْنَا عَشَرَ، كَعِدَّةِ نُقَبَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ»، وهذا نصّ صريح منه، وليس ممّا انفرد الشيعة بروايته لتتّهمهم بوضعه، بل هو حديث متواتر رواه جمع غفير من الصحابة والتابعين والعلماء من أهل السنّة، منهم البخاريّ ومسلم في صحيحيهما، ومن الواضح أنّه لا مجال للرأي بعد هذا النصّ الصّريح؛ كما قال اللّه تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا[٢٧]. أمّا قولك بأنّ عمر الأئمّة الإثني عشر أقصر من عمر هذه الأمّة فهو أيضًا اجتهاد أمام النصّ، ثمّ ما هو بقول صحيح؛ لأنّك لا تعلم عمر الأئمّة الإثني عشر لو كان النّاس يتّبعونهم، فلعلّ اللّه مدّ في أعمارهم، كما مدّ في عمر نوح عليه السلام، بغضّ النظر عمّا جاء في الروايات المتواترة من أنّ عيسى عليه السلام ينزل بعدهم ويمكث في الأرض ما شاء اللّه.

سادسًا إنّ كون الأئمّة من آل النبيّ وذرّيته ليس تشبّهًا بسلسلة السلاطين، بل هو من سنّة اللّه في الذين خلوا من قبل ولن تجد لها تبديلًا؛ كما أخبر عنها بصراحة، فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ۝ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ[٢٨]، وهو عهد عهده اللّه إلى إبراهيم عليه السلام إذ ابتلاه بكلمات فأتمّهنّ، ﴿قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ۖ قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي ۖ قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ[٢٩]، يعني أنّه ينال العادلين من ذرّيّته فقطّ؛ كما قال: ﴿وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ[٣٠]، وقال: ﴿وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ[٣١]، وليست علّة ذلك العصبيّة والعنصريّة كما يتصوّر الجهّال، ولكنّ العلّة أنّ أهل بيت النبيّ هم أقوى على التعلّم منه بطبيعة الحال لكونهم معه في بيته بالليل والنهار، والنبيّ أيضًا أقوى على تعليمهم وتزكيتهم؛ كما يظهر ذلك من قول اللّه تعالى: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ[٣٢]، وقوله تعالى: ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ[٣٣]، وقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا[٣٤]، ولا شكّ أنّ أهل بيت الرّجل هم أعلم النّاس بخُلقه وسنّته، وأشدّ النّاس حبًّا له، وأكثر النّاس تعهّدًا بوصاياه، وأشبه النّاس به، لكونهم من لحمه ودمه، واغتذائهم بطعامه وشرابه، وتأثّرهم بصفاته وآدابه، وهذه علّة كافية عند الرّبّ الحكيم ليختار خليفة النبيّ منهم، ولو كره الحاسدون؛ كما قال تعالى: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ۖ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا[٣٥]، وقال النبيّ: «إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ خَلِيفَتَيْنِ: كِتَابَ اللَّهِ وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي، إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدِي، فَانْظُرُوا كَيْفَ تَخْلُفُونِي فِيهِمَا، وَإِنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ، نَبَّأَنِي بِذَلِكَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ»، وليس هذا ممّا انفرد الشيعة بروايته لتتّهمهم بوضعه، بل هو حديث متواتر عن النبيّ رواه جمع غفير من الصحابة والتابعين والعلماء من أهل السنّة، كأبي بكر بن أبي شيبة، وإسحاق بن راهويه، وأحمد بن حنبل، والدارميّ، ومسلم، والترمذيّ، والنّسائيّ، وقد نصّ على صحّته العديد من أئمّة الحديث كالطبريّ، والمحامليّ، والحاكم، والذّهبيّ، وابن كثير، والهيثميّ، والسيوطيّ، والمناويّ، والألبانيّ، بل حكي عن بعضهم الإجماع على صحّته، كما بيّن ذلك السيّد المنصور حفظه اللّه تعالى في كتاب «العودة إلى الإسلام»[٣٦].

سابعًا إنّ الإعتقاد بظهور المهديّ وملئه الأرض عدلًا كما ملئت ظلمًا، مستند إلى الأخبار المتواترة عن النبيّ، وليس ذكر الآيات إلّا لبيان أنّ هذه الأخبار المتواترة موافقة لكتاب اللّه؛ كما صرّح بذلك السيّد المنصور حفظه اللّه تعالى، فقال بعد بيان تواتر الأخبار: «ومضمونه موافق لما وعد اللّه تعالى في القرآن إذ قال: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ[٣٧]، وقال: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ[٣٨]، وقال: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ[٣٩]، وقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ۚ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ[٤٠]؛ نظرًا لأنّ المستفاد منه حتميّة سيطرة بعض عباد اللّه المؤمنين الصّالحين المستضعفين المحبوبين المجاهدين الرّحماء الشجعان على الأرض في المستقبل»[٤١]، ومن الواضح أنّه لا بدّ من تصديق الأخبار الواردة عن النبيّ إذا كانت متواترة ومتوافقة مع القرآن؛ لأنّها تفيد العلم، والعلم حجّة قاطعة، ولا يتجاهله إلّا كلّ منافق يتّخذ دينه لهوًا ولعبًا؛ كأمثال الضالّين الذي يقال لهم «القرآنيّون»، وهم أبعد النّاس من القرآن، فينكرون حجّيّة الأخبار رأسًا، ولا يبالون بتواترها، ولا توافقها مع القرآن، ثمّ يدّعون أنّهم متمسّكون بالقرآن، مع أنّ القرآن يأمرهم بطاعة النبيّ، ويأمرهم باستخدام العقل، واتّباع ما يجيئهم من العلم، والأخذ بالأخبار التي تبيّنت صحّتها.

بهذا تبيّن بطلان رأيك وبُعده من الحقّ، ولم يبق إلّا أن تصلحه خاشعًا، أو تصرّ عليه مستكبرًا، وإن تصلحه فهو خير لك، وإن تصرّ عليه فإنّ اللّه لا يحبّ من كان مستكبرًا؛ كما قال: ﴿يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا ۖ فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ[٤٢].

↑[١] . المائدة/ ٤٨
↑[٢] . البقرة/ ١٤٥
↑[٣] . الأنعام/ ٥٦
↑[٤] . المؤمنون/ ٧١
↑[٥] . البقرة/ ٣٠
↑[٦] . القول ٦، الفقرة ١
↑[٧] . القول ٦، الفقرة ٢
↑[٨] . القول ٦، الفقرة ٣
↑[٩] . النّور/ ٥٥
↑[١٠] . ص/ ٢٦
↑[١١] . يعني الحسن بن عليّ بن أبي طالب.
↑[١٢] . الأنعام/ ١١١
↑[١٣] . القول ٦، الفقرة ٨
↑[١٤] . المائدة/ ٥
↑[١٥] . محمّد/ ٩
↑[١٦] . الشّورى/ ١٣
↑[١٧] . يس/ ٦٨
↑[١٨] . المؤمنون/ ٨١
↑[١٩] . الزّخرف/ ٢٢
↑[٢٠] . القول ٦، الفقرة ٩
↑[٢١] . الأنبياء/ ٧٣
↑[٢٢] . القصص/ ٤١
↑[٢٣] . النّساء/ ٦٠
↑[٢٤] . البقرة/ ٢٤٧-٢٤٨
↑[٢٥] . المائدة/ ١٢
↑[٢٦] . الأحزاب/ ٦٢
↑[٢٧] . الأحزاب/ ٣٦
↑[٢٨] . آل عمران/ ٣٣-٣٤
↑[٢٩] . البقرة/ ١٢٤
↑[٣٠] . العنكبوت/ ٢٧
↑[٣١] . الزّخرف/ ٢٨
↑[٣٢] . طه/ ١٣٢
↑[٣٣] . الشّعراء/ ٢١٤
↑[٣٤] . الأحزاب/ ٣٣
↑[٣٥] . النّساء/ ٥٤
↑[٣٧] . الأنبياء/ ١٠٥
↑[٣٨] . القصص/ ٥
↑[٣٩] . النّور/ ٥٥
↑[٤٠] . المائدة/ ٥٤
↑[٤٢] . الجاثية/ ٨