أخبرنا جماعة من أصحابنا، قالوا: أقبل علينا المنصور بعد صلاة العصر، فوعظنا، وحذّرنا من عبادة الطاغوت، وأمرنا بنصر اللّه وخليفته في الأرض، ولو كره الناس وخالفوا. فلمّا فرغ من كلامه ووفّى حقّ النصيحة، قال له رجل من أصحابه: «يا أستاذ! ليتك قلت ما يقبلون منك، واتّخذت طريقة لا تُهربهم منك»! فغضب المنصور وقال:

مَاذَا أَقُولُ، وَكَيْفَ أَضْرِبُ مَثَلًا؟! فَهَلْ تُوجَدُ كَلِمَةٌ لَمْ يَبْتَذِلُوهَا، أَمْ هَلْ تَرَكُوا لِي جُمْلَةً؟! لَا أَذْهَبُ مَذْهَبًا إِلَّا وَقَدْ ذَهَبُوهُ قَبْلِي، وَلَا أَنْهَجُ مَنْهَجًا إِلَّا وَقَدْ نَهَجُوهُ قَبْلِي، حَتَّى ضَيَّقُوا عَلَيَّ الْمَذَاهِبَ كُلَّهَا، وَصَعَّبُوا عَلَيَّ الْمَنَاهِجَ كُلَّهَا! فَوَالَهْفَاهُ عَلَى أَنْ غَلَبُوا عِلْمِي بِجَهْلِهِمْ، وَوَاحَسْرَتَاهُ عَلَى أَنْ حَجَبُوا صِدْقِي بِكِذْبِهِمْ! بِاسْمِ اللَّهِ قَضَوْا حَاجَةَ الشَّيْطَانِ، وَتَحْتَ الدِّينِ دَسَّوْا كُلَّ مِصْيَدٍ؛ فَأَهَانُوا بِذَلِكَ اسْمَ اللَّهِ، وَزَهَّدُوا النَّاسَ فِي الدِّينِ!

أَلَا إِنَّهُ لَا يُوجَدُ مَنْ يَزْنِي ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ، أَوْ يَسْرِقُ لِأَجْلِ الثَّوَابِ، وَلَكِنْ يُوجَدُ قَوْمٌ يَسْفِكُونَ دِمَاءَ الْأَبْرِيَاءِ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ، وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ لِأَجْلِ الثَّوَابِ، وَيَظْلِمُونَ النَّاسَ مُعْتَبِرِينَ أَنْفُسَهُمْ مَنْصُوبِينَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ!

ثمّ رفع صوته كأنّه يصيح، فقال:

وَيْلٌ لِلَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَيَسْفِكُونَ الدِّمَاءَ، ثُمَّ يَقُولُونَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ وَلَّاهُمْ!

وَيْلٌ لِلَّذِينَ يُقَدِّمُونَ نَفْعَهُمْ عَلَى الدِّينِ، ثُمَّ يَقُولُونَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَمَرَهُمْ!

وَيْلٌ لِلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، ثُمَّ يَقُولُونَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَذِنَ لَهُمْ!

وَيْلٌ لِلَّذِينَ يَقُولُونَ الزُّورَ، ثُمَّ يَقُولُونَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ قَالَ لَهُمْ!

وَيْلٌ لِلَّذِينَ يَسُبُّونَ وَيَبْهَتُونَ، ثُمَّ يَقُولُونَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ وَصَّاهُمْ!

فَمَنْ أَظْلَمُ مِنْهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَمَنْ أَشَدُّ مِنْهُمْ عَذَابًا فِي الْآخِرَةِ؟!

أَلَا يُبَالُونَ بِيَوْمٍ يَأْتِيهِمْ مَلَكُ الْمَوْتِ، فَيَأْخُذُ أَعْنَاقَهُمْ، وَيَقْطَعُ أَنْفَاسَهُمْ، وَيَحُولُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَعْوَانِهِمْ وَمَا قَدْ جَمَعُوا مِنْ شَيْءٍ؟!

أَلَا يَخَافُونَ مِنْ يَوْمٍ يُنَادَوْنَ: «أَيْنَ الْأَظْلَمُونَ؟! أَيْنَ الَّذِينَ كَانُوا يَعْبُدُونَ الشَّيْطَانَ، وَيَقُولُونَ: إِنَّمَا نَعْبُدُ اللَّهَ؟! أَيْنَ الَّذِينَ كَانُوا يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ، وَيَقُولُونَ: إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ؟!» فَيَجْتَمِعُونَ مِنْ شُقُوقِ الْقُبُورِ، وَقُلَلِ الْجِبَالِ، وَقُعُورِ الْبِحَارِ، وَبُطُونِ السِّبَاعِ، وَحَوَاصِلِ الطُّيُورِ، فَيَقُومُونَ، وَمَا عَلَيْهِمْ مِنْ لِبَاسٍ، وَوُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ، فَيُسَاقُونَ إِلَى الْمَحْشَرِ كَقَطِيعِ الْمَاعِزِ، لِيُحَاسَبُوا حِسَابًا لَمْ يُحَاسَبْهُ أَحَدٌ! ثُمَّ يُسْلَكُونَ فِي السَّلَاسِلِ، وَيُقْذَفُونَ فِي سَقَرَ، وَهِيَ وَادٍ فِي قَعْرِ جَهَنَّمَ يُقْذَفُ فِيهَا الشَّيَاطِينُ، فَيُسْلَخُ فِيهَا جُلُودُهُمْ، كَمَا يُسْلَخُ جِلْدُ الدَّجَاجِ لِلشَّيِّ!

ثُمَّ يُنَادِي مُنَادٍ: «أَيْنَ أَعْوَانُ هَؤُلَاءِ؟! أَيْنَ الَّذِينَ صَدَّقُوهُمْ فِي كِذْبِهِمْ، وَاتَّبَعُوهُمْ؟! أَيْنَ مُحِبُّوهُمْ وَمُحِبُّو مُحِبِّيهِمْ؟!» فَيَخْرُجُونَ مِنْ كُلِّ ثَقْبٍ كَأَمْثَالِ النَّمْلِ، وَلَهُمْ وُجُوهٌ قَبِيحَةٌ وَرِيحٌ مُنْتِنَةٌ، وَقَدْ بَلَغَتْ قُلُوبُهُمُ الْحَنَاجِرَ وَأَنْفُسُهُمُ الْحُلْقُومَ، فَيُسَاقُونَ إِلَى الْمَحْشَرِ، لِيُوَفَّوْا حِسَابَهُمْ؛ لَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ عُذْرٌ، وَلَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةٌ؛ حَتَّى إِذَا أَشْرَفُوا عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ، وَسَمِعُوا شَهِيقَهَا الَّذِي كَأَنَّهُ صَوْتُ الْإِنْفِجَارِ، وَأَحَسُّوا لَهِيبَهَا الَّذِي كَأَنَّهُ حَرُّ الْقَمَائِنِ، بَكَوْا وَدَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا. فَيَقُولُ لَهُمْ خَزَنَتُهَا: «يَا أَتْبَاعَ الْأَظْلَمِينَ! أَلَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً؟!»[١] فَيَقُولُونَ: «بَلَى، وَلَكِنَّا لَمْ نَتَّبِعْهُ، وَاتَّبَعْنَا الْأَظْلَمِينَ لِنَسْتَمْتِعَ بِمَا لَدَيْهِمْ مِنَ الْمَالِ وَالْقُوَّةِ، وَزَيَّنَ لَنَا الشَّيْطَانُ، وَكُنَّا قَوْمًا جَاهِلِينَ»! فَيَقُولُ لَهُمْ خَزَنَتُهَا: «فَالْآنَ ادْخُلُوا جَهَنَّمَ لِتَسْتَمْتِعُوا بِعَذَابِهِمْ، كَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِمَالِهِمْ وَقُوَّتِهِمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا»! فَيَلْحَقُونَ بِهِمْ بَيْنَ النَّارِ وَالدُّخَانِ، وَهُمْ سَاخِطُونَ عَلَيْهِمْ، فَيَلْعَنُونَهُمْ، وَيَقُولُونَ لَهُمْ: «أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا، إِذْ أَغْوَيْتُمُونَا وَقُلْتُمُ: اتَّبِعُونَا لِيَرْضَى اللَّهُ عَنْكُمْ»! فَيُجِيبُونَهُمْ: «أَأَكْرَهْنَاكُمْ؟! بَلِ اتَّبَعْتُمُونَا طَائِعِينَ، لِتَسْتَمْتِعُوا بِمَا لَدَيْنَا مِنَ الْمَالِ وَالْقُوَّةِ، وَكُنْتُمْ شُرَكَاءَنَا فِي الظُّلْمِ»! فَتَشْتَعِلُ بَيْنَهُمُ النَّارُ، وَتَقْطَعُ عَلَيْهِمْ تَخَاصُمَهُمْ، فَيُؤَذِّنُ مُؤَذِّنٌ: «أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْأَظْلَمِينَ؛ الَّذِينَ جَلَسُوا عَلَى كُرْسِيِّهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَحَكَمُوا بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ، وَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى أَتْبَاعِهِمْ؛ الَّذِينَ صَدَّقُوهُمْ وَأَعَانُوهُمْ، لِيَسْتَمْتِعُوا بِمَا لَدَيْهِمْ مِنَ الْمَالِ وَالْقُوَّةِ»! فَهُنَالِكَ يَيْئَسُونَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَيَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ لَا يُفْلِحُونَ!

هَذِهِ مَوْعِظَةٌ حَسَنَةٌ لِلَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْهَا، لَكِنَّ الْأَظْلَمِينَ وَالْمُسْتَمْتِعِينَ بِدَوْلَتِهِمْ لَا يَسْتَمِعُونَ إِلَيْهَا، وَيَصُدُّونَ النَّاسَ عَنِ الْإِسْتِمَاعِ إِلَيْهَا، إِذْ يَضْحَكُونَ مِنِّي اسْتِهْزَاءً، وَيَقُولُونَ مُسْتَكْبِرِينَ: «هَذَا قَوْلٌ كَقَوْلِ الْأَدْعِيَاءِ»، لِيُخَوِّفُوا الْعَامَّةَ مِنِّي، وَيُجَرِّئُوا السُّفَهَاءَ عَلَيَّ، حَتَّى يَبْسُطُوا إِلَيَّ أَلْسِنَتَهُمْ، وَقَدْ يَمْكُرُونَ تَارَةً أُخْرَى، فَيَقُولُونَ: «مَا هَذَا بِبَدِيعٍ مِنَ الْقَوْلِ، وَقَدْ قُلْنَا مِثْلَهُ مِنْ قَبْلُ»، لِيُنَفِّرُوا النَّاسَ مِنِّي كَمَا نَفَّرُوهُمْ مِنْهُمْ، حَتَّى يَقُولُوا: «إِنَّا بُرَآءُ مِنْهُمْ وَمِمَّنْ يَقُولُ مِثْلَ قَوْلِهِمْ»، وَمَا أَنَا مِنْهُمْ، وَلَا أَقُولُ مِثْلَ قَوْلِهِمْ؛ لَوْ كُنْتُ كَذَلِكَ لَمْ يَتَّخِذُونِي عَدُوًّا؛ كَمَا أَنَّنِي بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ ادِّعَاءٍ بَاطِلٍ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ، لَكِنَّهُمْ يَحْسُدُونَنِي، وَلَا يُنْصِفُونَ.

إِنَّنِي مِنْ قَوْمٍ هُمْ مُوفُونَ بِالْعَهْدِ الْأَوَّلِ، وَلَمْ يُبَدِّلُوا عَلَى مَرِّ السِّنِينَ؛ الَّذِينَ هُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِمْ، وَيَمْشُونَ بِنُورٍ مِنْ عِنْدِهِ؛ الَّذِينَ لَا يَقُولُونَ مَا لَيْسَ لَهُمْ بِحَقٍّ، وَلَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَلَا أَهْوَاءَ النَّاسِ؛ الَّذِينَ أُصُولُهُمْ فِي أَرْضِ الْيَقِينِ، وَفُرُوعُهُمْ فِي سَمَاءِ الْإِيمَانِ، وَهِيَ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ؛ الَّذِينَ لَا يَغْلِبُهُمْ أَحَدٌ بِحُجَّةٍ، وَلَا يَسْبِقُهُمْ أَحَدٌ فِي عَدْلٍ. فَاسْتَمِعُوا لِقَوْلِي، وَلَا تُسَوُّوا بَيْنِي وَبَيْنَ الْآخَرِينَ؛ لِأَنَّنِي لَكُمْ مُعَلِّمٌ صَادِقٌ نَصُوحٌ، وَأَدْعُوكُمْ إِلَى خَيْرِ الْعَمَلِ، أَنْ تَعْبُدُوا رَبَّكُمْ، وَتَجْتَنِبُوا عِبَادَةَ الطَّاغُوتِ، عَسَى أَنْ يَغْفِرَ لَكُمْ رَبُّكُمْ، وَيُنْعِمَ عَلَيْكُمْ، وَيُنْجِيَكُمْ مِنَ الذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ، وَيُبْلِغَكُمُ الْأَرْضَ الطِّيَّبَةَ الَّتِي وَعَدَهَا آبَاءَكُمْ؛ الْأَرْضَ الَّتِي هِيَ خَيْرٌ مِنْ كُلِّ أَرْضٍ رَأَيْتُمْ فِي الدُّنْيَا أَوْ سَمِعْتُمْ. فَاقْبَلُوا نَصِيحَتِي، وَلَا تُعْرِضُوا عَنِّي، وَلَا تُخْدَعُوا بِمَا يَفْتَرِي عَلَيَّ الْأَظْلَمُونَ لِيُسِيئُوا بِي ظُنُونَكُمْ؛ فَإِنَّهُمْ يَرْتَزِقُونَ مِنَ الدِّينِ، فَيَخَافُونَ أَنْ أُكْسِدَ عَلَيْهِمْ سُوقَهُمْ.

مَنْ سَمِعَ قَوْلِي فَلْيَحْفَظْهُ، وَلْيُبْلِغْهُ مَنْ لَمْ يَسْمَعْهُ، لِيَهْدِيَ اللَّهُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ، أَوْ يَمُدَّهُ فِي ضَلَالِهِ.

شرح القول:

لمزيد المعرفة عن الفرق الهالكة التي أشار إليها في هذه الخطبة، راجع: الرسالة ١٢، والأقوال ١٨، ٢٩، ٥٧ و٦٣.