بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ؛ الْعَادِلِ الَّذِي لَا يَظْلِمُ، وَالْقَادِرِ الَّذِي لَا يَضْعُفُ، وَالْعَالِمِ الَّذِي لَا يَغْفُلُ، وَالْيَقْظَانِ الَّذِي لَا يَنَامُ، وَالْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ؛ الْحَمِيدِ بِذَاتِهِ، النَّزِيهِ مِنْ كُلِّ نَقْصٍ وَعَيْبٍ؛ الْقَائِمِ بِذَاتِهِ، الدَّائِمِ فِي قِيَامِهِ؛ الَّذِي هُوَ بَاطِنٌ فِي غَايَةِ الظُّهُورِ، وَظَاهِرٌ مِنْ وَرَاءِ أَلْفِ حِجَابٍ؛ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ، لِتَكُونَ دَلِيلًا عَلَى رُبُوبِيَّتِهِ؛ الَّذِي خَلَقَ الْمَلَائِكَةَ بِرَحْمَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَأَسْكَنَهُمُ النُّجُومَ وَالْكَوَاكِبَ، لِيُقَدِّسُوهُ وَيَخْدِمُوهُ؛ الَّذِي خَلَقَ الْإِنْسَانَ بِحِكْمَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَفَضَّلَهُ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقَ، لِيَعْرِفَهُ وَيَعْبُدَهُ. فَأَسْكَنَهُ جَنَّتَهُ وَمَتَّعَهُ بِكُلِّ نِعْمَةٍ، حَتَّى إِذَا طَغَى وَعَصَى، نَفَاهُ إِلَى أَرْضٍ وَعْرَةٍ لِيَقْدِرَ الْجَنَّةَ وَيَتَعَلَّمَ الطَّاعَةَ، وَعَهِدَ إِلَيْهِ أَنْ يَتَّبِعَ الْهُدَى الَّذِي يَأْتِيهِ مِنْ عِنْدِهِ لِكَيْ لَا يَخَافَ وَلَا يَحْزَنَ، وَلَا يَضِلَّ وَلَا يَشْقَى؛ فَقَالَ: ﴿اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا ۖ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ[١]، وَقَالَ: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى[٢]، وَكَانَ هَذَا الْعَهْدُ مِفْتَاحًا وَهَبَهُ اللَّهُ لِلْإِنْسَانِ لِيَفْتَحَ بِهِ أَبْوَابَ الْفَلَاحِ الْمُغْلَقَةَ، وَيَعُودَ إِلَى مَسْكَنِهِ الْأَوَّلِ.

فَفِي هَذِهِ الْأَرْضِ الْوَعْرَةِ، وَلَدَتِ الْأُمَّهَاتُ، وَرَبَا الْأَوْلَادُ، وَدَبَّ الْأَجْيَالُ، وَكَثُرَ الْأَنَامُ، فَانْتَشَرُوا فِي الْجِبَالِ وَالصَّحَارِي وَالْغَابَاتِ وَالْبِحَارِ، وَتَدْرِيجِيًّا، وَمَعَ مُرُورِ الزَّمَانِ، نَسُوا تَارِيخَهُمْ، وَضَلُّوا عَنْ خَالِقِهِمْ، وَتَجَاهَلُوا قَرَابَتَهُمْ، وَأَصْبَحَ بَعْضُهُمْ أَعْدَاءَ بَعْضٍ؛ كَمَا كَانَ اللَّهُ قَدْ أَخْبَرَهُمْ مِنْ قَبْلُ، فَقَالَ لَهُمْ: ﴿اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ[٣]، لَكِنَّهُمْ حَسِبُوا أَنَّ مَتَاعَهُمْ فِي الْأَرْضِ لَا يَفْنَى، وَأَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ لَا يَرْجِعُونَ. فَاسْتَكْبَرَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَظَلَمَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، حَتَّى مَلَؤُوا الْبَرَّ وَالْبَحْرَ فَسَادًا؛ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ[٤]؛ إِذْ قَتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَاسْتَعْبَدَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَأَخْرَجَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا مِنْ دِيَارِهِمْ، وَنَهَبَ بَعْضُهُمْ أَمْوَالَ بَعْضٍ، وَهَكَذَا مُلِئَتِ الْأَرْضُ مِنْ ظُلْمِهِمْ وَجَوْرِهِمْ.

هُنَالِكَ اخْتَارَ اللَّهُ مِنْ بَيْنِهِمْ أَنْبِيَاءَ، فَأَرْسَلَهُمْ إِلَيْهِمْ بِالْبَيِّنَاتِ، وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ، لِيَكُفَّ النَّاسُ عَنِ الْعُدْوَانِ، وَيَقُومُوا بِالْعَدْلِ؛ كَمَا قَالَ: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ[٥]، وَكَانَ هَذَا هُوَ الْمَقْصُودَ مِنْ بِعْثَةِ الْأَنْبِيَاءِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ كَانَ عَادِلًا، وَخَلَقَ الْعَالَمَ عَلَى أَسَاسِ الْعَدْلِ، وَأَحَبَّ أَنْ يَكُونَ الْعَدْلُ فِيهِ جَارِيًا؛ كَمَا قَالَ: ﴿وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ ۝ أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ ۝ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ[٦]. فَبَعَثَ الْأَنْبِيَاءَ لِيُصَارِعُوا الظُّلْمَ وَيَأْمُرُوا بِالْعَدْلِ، وَأَنْزَلَ الْحَدِيدَ لِيَأْخُذُوهُ، فَيُقَاتِلُوا بِهِ الَّذِينَ يَصُدُّونَ أَنْ يَكُونَ الْعَدْلُ فِي الْعَالَمِ؛ كَمَا قَالَ: ﴿وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ[٧]؛ لِأَنَّ الْعَالَمَ خُلِقَ عَلَى أَسَاسِ الْعَدْلِ، وَلَا يَصْلُحُ إِلَّا بِالْعَدْلِ. إِنَّ الظُّلْمَ يُفْسِدُ الْعَالَمَ، وَيُخِلُّ بِنِظَامِ الْخَلْقِ، وَيَجُرُّ الْأَرْضَ إِلَى الْخَرَابِ، وَلَمْ يُرِدْهُ اللَّهُ لِلْعَالَمِينَ؛ كَمَا قَالَ: ﴿وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ[٨].

إِنَّهُ مُنْذُ أَوَّلِ يَوْمٍ جَعَلَ لِكُلِّ شَيْءٍ «قَدْرًا»، وَ«مَوْضِعًا» مُتَنَاسِبًا مَعَ قَدْرِهِ، لِيَقِرَّ فِيهِ، وَلَا يَخْرُجَ مِنْهُ فَيُفْسِدَ؛ كَمَا قَالَ: ﴿قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا[٩]، وَقَالَ: ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا[١٠]، وَقَالَ: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ[١١]، وَقَدْرُ كُلِّ شَيْءٍ هُوَ الْإِسْتِعْدَادُ الَّذِي خَصَّهُ اللَّهُ بِهِ. فَالْعَدْلُ أَنْ يَعْلَمَ الشَّيْءُ قَدْرَهُ، وَيَقِرَّ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ لَهُ، وَالظُّلْمُ أَنْ لَا يَعْلَمَ الشَّيْءُ قَدْرَهُ، وَيَخْرُجَ مِنْ مَوْضِعِهِ، وَيَحْتَلَّ مَوْضِعًا آخَرَ لَمْ يَجْعَلْهُ اللَّهُ لَهُ، وَالظُّلْمُ أَبُو الْفَسَادِ. لِذَلِكَ، لَمْ يَبْعَثِ اللَّهُ أَنْبِيَاءَهُ إِلَّا لِيُذَكِّرُوا النَّاسَ بِأَقْدَارِهِمْ، حَتَّى يَعْلَمَ النَّاسُ أَقْدَارَهُمْ، وَيَجِدُوا مَوَاضِعَهُمْ، وَيَقِرَّ كُلٌّ مِنْهُمْ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ لَهُ، وَلَا يَخْرُجُوا مِنْ مَوَاضِعِهِمْ، وَلَا يَحْتَلُّوا مَوَاضِعَ غَيْرِهِمُ الَّتِي لَا تَتَنَاسَبُ مَعَ أَقْدَارِهِمْ، وَلَا يَظْلِمَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَلَا يُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ. فَعَرَّفَ الْأَنْبِيَاءُ النَّاسَ عَلَى أَقْدَارِهِمُ الَّتِي كَانَتْ مَوَاهِبَهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ، وَدَعَوْهُمْ إِلَى الْعَدْلِ، وَمَنَعُوهُمْ مِنَ الظُّلْمِ، لِيَمْلَؤُوا مَوَاضِعَهُمُ الشَّاغِرَةَ، وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ مَوْضِعَ بَعْضٍ، وَيَسْتَعْمِلُوا مَوَاهِبَهُمْ، وَلَا يَمْنَعَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا مِنِ اسْتِعْمَالِ مَوَاهِبِهِمْ، حَتَّى يَصِلُوا جَمِيعًا إِلَى كَمَالِهِمْ بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ، فَيَمْتَلِئَ الْعَالَمُ بِالْعَدْلِ، بَعْدَ أَنِ امْتَلَأَ بِالظُّلْمِ.

فَجَاءَ الْأَنْبِيَاءُ وَاحِدًا تِلْوَ الْآخَرِ بِالْهُدَى وَالْبَيِّنَاتِ، وَبَيَّنُوا لِكُلِّ أُمَّةٍ بِلِسَانِهَا، وَنَادَوْا بِالْعَدْلِ فِي الْأَرْكَانِ الْأَرْبَعِةِ لِهَذِهِ الْأَرْضِ الْوَاسِعَةِ مِنَ الْجَبَلِ وَالصَّحْرَاءِ وَالْغَابَةِ وَالْبَحْرِ، وَكَافَحُوا الظُّلْمَ بِأَلْسِنَتِهِمْ وَأَيْدِيهِمْ، وَلَكِنَّ النَّاسَ الَّذِينَ كَانُوا قَدْ نَسُوا عَهْدَ اللَّهِ فِي يَوْمِ النَّفْيِ وَفَقَدُوا مِفْتَاحَ الْفَلَاحِ، كَذَّبُوهُمْ وَلَمْ يُجِيبُوا دَعْوَتَهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَعْرِفُونَ أَقْدَارَهُمْ، وَلَا يَرْضَوْنَ بِمَوَاضِعِهِمْ، وَيَسْتَعْلِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَيَأْلِفُونَ الظُّلْمَ وَالْفَسَادَ، وَيَتَّبِعُونَ كُبَرَاءَهُمْ، وَكَانَ كُبَرَاؤُهُمْ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ لِيَتَخَطَّفُوا الْأَنْبِيَاءَ مِنْهَا؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى عِلْمٍ بِأَنَّهُمْ قَدْ قَعَدُوا فِي مَقَاعِدِ الْآخَرِينَ، وَلَوِ انْقَادُوا لِلْعَدْلِ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنَ الْقِيَامِ مِنْ مَقَاعِدِهِمْ وَتَرْكِ الْكُبْرِ لِلَّذِينَ أَكْبَرَهُمُ اللَّهُ؛ الَّذِينَ قَدِ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَاضْطُهِدُوا بِأَيْدِيهِمْ! فَلَمْ يَأْتِ نَبِيٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِلَّا أَنْكَرَهُ كُبَرَاءُ النَّاسِ وَوَقَفُوا فِي وَجْهِهِ لِكَيْ لَا يَتَقَدَّمَ؛ كَمَا قَالَ: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ[١٢]، وَأُقْسِمُ بِاللَّهِ أَنَّ مَا أُرْسِلَ بِهِ الْمُنْذِرُونَ كَانَ هُوَ «الْعَدْلَ» الَّذِي لَمْ يَكُنْ كُبَرَاءُ الْقُرَى يَصْبِرُونَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْعَدْلَ لَمْ يَزَلْ يُضِرُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ وَيَنْفَعُ الْمُسْتَضْعَفِينَ، وَيَضَعُ هَؤُلَاءِ وَيَرْفَعُ هَؤُلَاءِ! فَتَعَاطَوْا فَذَبَحُوا بَعْضًا، وَحَرَّقُوا بَعْضًا، وَأَلْقَوْا بَعْضًا إِلَى الْأُسْدِ الْجَائِعَةِ، وَرَمَوْا بَعْضًا مِنْ أَعْلَى الْجَبَلِ الشَّاهِقِ، وَاسْتَفَزَّوْا بَعْضًا مِنَ الْأَرْضِ، وَكُلُّ ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَحْتَمِلُونَ الْعَدْلَ وَيَخَافُونَ قِيَامَهُ! لِدَرَجَةٍ أَنَّ نُوحًا النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ دَعَا أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا، وَلَمْ يُجِبْهُ إِلَّا ثَمَانُونَ كَانَ ثَمَانِيَةٌ مِنْهُمْ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَوَقَعَ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَتَلُوا سَبْعِينَ نَبِيًّا زَكِيًّا فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ، ثُمَّ غَدَوْا إِلَى مَكَاسِبِهِمْ، وَكَانَ بَائِعُ الرُّطَبِ يُنَادِي: الرُّطَبَ! الرُّطَبَ!

كَذَلِكَ جَاءَ الْأَنْبِيَاءُ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ، وَدَعَوُا النَّاسَ إِلَى الْعَدْلِ، فَكُذِّبُوا وَظُلِمُوا، حَتَّى جَاءَ دَوْرُ خَاتَمِهِمْ وَوَارِثِهِمْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ. فَبَعَثَهُ اللَّهُ بَعْدَ فَتْرَةٍ طَوِيلَةٍ لَمْ يَأْتِ فِيهَا نَبِيٌّ وَلَمْ يَنْزِلْ فِيهَا وَحْيٌ؛ كَانَ الْكُتُبُ السَّمَاوِيَّةُ قَدْ حُرِّفَتْ، وَالسُّنَنُ الْحَسَنَةُ قَدْ بُدِّلَتْ، وَسُبُلُ النَّجَاةِ قَدْ خَفِيَتْ، وَأَعْلَامُ الْهُدَى قَدْ سَقَطَتْ؛ النَّاسُ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ، وَيَتِيهُونَ فِي ظُلُمَاتِ الْخُرَافَاتِ وَالْأَوْهَامِ؛ يَعِيشُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَيَمُوتُونَ فِيهَا؛ لَا يَعْرِفُونَ أَقْدَارَهُمْ، وَيَعْتَدِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ. فِي مِثْلِ هَذَا الزَّمَانِ، بَعَثَ اللَّهُ نَبِيَّهُ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ. فَبَلَّغَ رِسَالَةَ رَبِّهِ كَمَا يَجِبُ، وَاسْتَقَامَ عَلَى طَرِيقَتِهِ كَمَا يَحِقُّ؛ أَدَّى مَا وُكِّلَ بِهِ مِنْ دَعْوَةِ الْعَدْلِ، وَأَخَذَ فِيمَا أُمِرَ بِهِ مِنْ إِقَامَةِ الْعَدْلِ؛ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ[١٣]، وَقَالَ: ﴿وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ[١٤]. فَدَعَا إِلَى الْعَدْلِ، وَجَهَدَ فِي إِقَامَتِهِ بَيْنَ النَّاسِ، وَلَكِنَّ الْكَافِرِينَ بِمَكَّةَ لَمْ يُجِيبُوا دَعْوَتَهُ، وَالْمُنَافِقِينَ بِالْمَدِينَةِ ضَيَّعُوا جُهُودَهُ، حَتَّى رَضِيَ اللَّهُ لَهُ جِوَارَهُ، وَقَبَضَ إِلَيْهِ رُوحَهُ الطَّيِّبَةَ، وَأَلْحَقَهَا بِأَرْوَاحِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِهِ؛ ﴿إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ[١٥].

كَانَ هَذَا انْتِهَاءَ سِلْسِلَةِ النُّبُوَّةِ، وَانْغِلَاقَ بَوَّابَةِ الْوَحْيِ، وَلَكِنْ جَرَتْ سُنَّةُ اللَّهِ الَّتِي لَا تَبْدِيلَ لَهَا أَنْ لَا يَتْرُكَ الْأَرْضَ يَوْمًا وَاحِدًا بِغَيْرِ خَلِيفَةٍ لَهُ فِيهَا يَجْعَلُ الْعَدْلَ فِيهَا مُمْكِنًا؛ كَمَا قَالَ: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً[١٦]. فَلَمْ يَذْهَبْ بّنَبِيِّهِ مِنْ بَيْنِ النَّاسِ حَتَّى جَعَلَ لَهُ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِهِ، وَأَخْبَرَ النَّاسَ بِقَدْرِهِمْ وَمَوْضِعِهِمْ، لِيَكُونُوا أَدِلَّاءَ الْعَدْلِ، وَالْمُقِيمِينَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ، وَلِيُتِمُّوا عَمَلَهُ، وَيُنْتِجُوا جُهُودَهُ، وَكَانُوا هُمْ عِتْرَتَهُ أَهْلَ بَيْتِهِ، الَّذِينَ أَخْبَرَ عَنْ إِرَادَتِهِ لِتَطْهِيرِهِمْ، وَفَرَضَ عَلَى عِبَادِهِ مَوَدَّتَهُمْ، إِذْ قَالَ: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا[١٧]، وَقَالَ: ﴿قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى[١٨]، وَقَالَ: ﴿قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا ۖ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ[١٩]، وَقَالَ: ﴿قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا[٢٠]. فَجَعَلَ مَوَدَّتَهُمْ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ، وَسَبِيلًا إِلَى نَفْسِهِ، وَجَعَلَ طَهَارَتَهُمْ مِنَ الرِّجْسِ دِعَامَةً لِذَلِكَ، لِيَبْتَلِيَ عِبَادَهُ مِنْ بَعْدِ نَبِيِّهِ، كَمَا ابْتَلَاهُمْ مِنْ قَبْلُ، حَتَّى يَعْلَمَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَهُ مِنْهُمْ وَيَعْلَمَ الْعَاصِينَ، وَمَنِ اتَّبَعَهُ فَقَدِ اتَّبَعَهُ لِنَفْسِهِ؛ كَمَا قَالَ: ﴿قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ[٢١].

إِنَّ خُلَفَاءَ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ رِجَالٌ هُدُوا إِلَى قَدْرِ كُلِّ شَيْءٍ وَمَوْضِعِهِ فِيهَا، وَطُهِّرُوا مِنَ الظُّلْمِ تَطْهِيرًا، لِيَضَعُوا كُلَّ شَيْءٍ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ لَهُ بِطَهَارَتِهِمْ، وَهَكَذَا يُقِيمُوا الْعَدْلَ، وَيُزِيلُوا الظُّلْمَ؛ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ[٢٢]، وَهُمْ عِتْرَةُ النَّبِيِّ أَهْلُ بَيْتِهِ، الَّذِينَ أَخْبَرَ النَّاسَ عَنْ قَدْرِهِمْ، وَدَلَّهُمْ عَلَى مَوْضِعِهِمْ، وَقَالَ لَهُمْ قَبْلَ مَوْتِهِ: «أَيُّهَا النَّاسُ! إِنِّي أُوشَكُ أَنْ أُدْعَى فَأُجِيبَ، وَإِنِّي مَسْؤُولٌ وَأَنْتُمْ مَسْؤُولُونَ، فَإِنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ خَلِيفَتَيْنِ: كِتَابَ اللَّهِ وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي، إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدِي، فَانْظُرُوا كَيْفَ تَخْلُفُونِي فِيهِمَا، وَإِنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ، نَبَّأَنِي بِذَلِكَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ»[٢٣]، وَلَكِنَّ الْمُؤْسِفَ أَنَّهُ لَمَّا دُعِيَ إِلَى اللَّهِ فَأَجَابَ، لَمْ يَتَمَسَّكْ بِهِمَا أَكْثَرُهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّ كِتَابَ اللَّهِ يَكْفِيهِمْ، وَلَا حَاجَةَ لَهُمْ إِلَى عِتْرَةِ نَبِيِّهِ أَهْلِ بَيْتِهِ! فَنَسُوا قَدْرَ عِتْرَتِهِ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَاحْتَلُّوا مَوْضِعَهُمْ، وَهُنَالِكَ بَدَأَتْ ضَلَالَةُ الْأُمَّةِ، وَسَالَ سَيْلُ شَقَاوَتِهِمْ! أَلَمْ يَعْهَدِ اللَّهُ إِلَيْهِمْ فِي كِتَابِهِ أَنْ يَتَّبِعُوا هُدَاهُ حَتَّى لَا يَشْقَوْا، وَيَعْهَدْ إِلَيْهِمْ نَبِيُّهُ فِي سُنَّتِهِ أَنْ يَتَمَسَّكُوا بِكِتَابِ اللَّهِ وَعِتْرَتِهِ أَهْلِ بَيْتِهِ حَتَّى لَا يَضِلُّوا؟! فَمَا حَمَلَهُمْ أَنْ نَسُوا عَهْدَ اللَّهِ وَجَعَلُوا عَهْدَ نَبِيِّهِ تَحْتَ أَقْدَامِهِمْ؟! لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ كَانُوا خَاطِئِينَ!

حِينَئِذٍ أَصْبَحَتْ هَذِهِ الْأُمَّةُ كَقَطِيعٍ تَائِهَةٍ فَقَدَتْ رَاعِيَهَا، وَلَمْ تَعْرِفِ الذِّئَابُ مِنْ أَيِّ جَانِبٍ يَأْكُلُونَهَا! دَخَلَ النَّاسُ فِي الظُّلُمَاتِ، وَارْتَدُّوا عَنْ دِينِهِمْ أَفْوَاجًا؛ نُسِيَتِ السُّنَنُ، وَظَهَرَتِ الْبِدَعُ الْمُوبِقَةُ؛ انْقَلَبَ الْإِسْلَامُ الْحَدِيثُ كَفَرْوٍ لُبِسَ مَقْلُوبًا، حَتَّى رَجَعَ النَّاسُ إِلَى جَاهِلِيَّتِهِمُ الْأُولَى، وَأَحْيَوْا مَا مَاتَ مِنَ السُّنَنِ الْجَاهِلِيَّةِ. أَكْرَهُوا الْحَسَنَ عَلَى الْمُهَادَنَةِ، وَالْحُسَيْنَ عَلَى الْمُقَاتَلَةِ، وَقَتَلُوا أَبْنَاءَ الْحُسَيْنِ الطَّاهِرِينَ الَّذِينَ كَانُوا يَأْمُرُونَ بِالْعَدْلِ، وَوَضَعُوا فِي مَوْضِعِهِمْ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِثْلُ قَدْرِهِمْ؛ كَأَنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ۝ أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ[٢٤].

ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةُ هَذَا الْعِنَادِ أَنْ سَيْطَرَ عَلَى الْأُمَّةِ الْجَبَابِرَةُ بَعْدَ الْجَبَابِرَةِ، وَالسُّفَهَاءُ بَعْدَ السُّفَهَاءِ، وَالْفَسَقَةُ بَعْدَ الْفَسَقَةِ، وَالْمُبْتَدِعَةُ بَعْدَ الْمُبْتَدِعَةِ، وَكُلٌّ مِنْهُمْ أَصَابَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ شَيْئًا، وَلَمْ يَمْنَحْ فُرْصَةً لِأَحَدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ مِنْ عِتْرَةِ النَّبِيِّ أَهْلِ بَيْتِهِ أَنْ يُثْبِتَ قَدَمَيْهِ فِي مَوْضِعِهِ، وَيُرْوِيَ غَلِيلَ الْمَظْلُومِينَ بِكَأْسِ الْعَدْلِ! كُلٌّ مِنْهُمْ خَرَقَ لِنَفْسِهِ شَرْعِيَّةً بِمَكْرِهِ وَآتَاهُمْ عُذْرًا، ثُمَّ رَكِبُوا عَرَبَةَ السُّلْطَةِ، فَاكْتَسَحُوا أَوَّلَ الْأُمَّةِ وَآخِرَهَا، وَجَرُّوا دِينَ اللَّهِ إِلَى شفا حفرة الزوال، وَفِي غُضُونِ ذَلِكَ، لَمْ يَزَلِ الْجُهَّالُ مِنَ النَّاسِ الَّذِينَ يَتَغَرَّمُونَ دَوْمًا بِسَبَبِ جَهْلِهِمْ، يُعِينُونَ بَعْضَ الظَّالِمِينَ عَلَى بَعْضٍ، وَيَسْتَبْدِلُونَ دَوْلَةَ ظُلْمٍ بِدَوْلَةِ ظُلْمٍ؛ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ[٢٥].

حَتَّى إِذَا جَاءَ دَوْرُ الْمَهْدِيِّ، وَاقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ، وَقَسَتِ الْقُلُوبُ، بَعَثَ اللَّهُ عَبْدًا مِنْ عِبَادِهِ مِنْ حَيْثُ تَطْلُعُ الشَّمْسُ، بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، لِيُذَكِّرَهُمْ بِعَهْدِهِ، وَيَدْعُوَهُمْ إِلَى خَلِيفَتِهِ فِي الْأَرْضِ مِنْ عِتْرَةِ نَبِيِّهِ أَهْلِ بَيْتِهِ، لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ، وَأَنَا ذَلِكَ الْعَبْدُ. فَأَجِيبُوا دَعْوَتِي، وَارْجِعُوا إِلَى الْمَهْدِيِّ، تُغْفَرْ لَكُمْ ذُنُوبُكُمْ، وَتَصْلُحْ لَكُمْ أُمُورُكُمْ، قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمْ يَوْمٌ أَتَى عَادًا وَثَمُودَ وَقَوْمَ نُوحٍ.

﴿وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى[٢٦]

↑[١] . البقرة/ ٣٨
↑[٢] . طه/ ١٢٣
↑[٣] . الأعراف/ ٢٤
↑[٤] . الرّوم/ ٤١
↑[٥] . الحديد/ ٢٥
↑[٦] . الرّحمن/ ٧-٩
↑[٧] . الحديد/ ٢٥
↑[٨] . آل عمران/ ١٠٨
↑[٩] . الطّلاق/ ٣
↑[١٠] . الفرقان/ ٢
↑[١١] . القمر/ ٤٩
↑[١٢] . سبأ/ ٣٤
↑[١٣] . الأعراف/ ٢٩
↑[١٤] . الشّورى/ ١٥
↑[١٥] . البقرة/ ١٥٦
↑[١٦] . البقرة/ ٣٠
↑[١٧] . الأحزاب/ ٣٣
↑[١٨] . الشّورى/ ٢٣ يعني قربى النبيّ، وأقربهم عترته أهل بيته. انظر: العودة إلى الإسلام، ص١٣٢.
↑[١٩] . الأنعام/ ٩٠
↑[٢٠] . الفرقان/ ٥٧
↑[٢١] . سبأ/ ٤٧
↑[٢٢] . الأعراف/ ١٨١
↑[٢٣] . هذا حديث متواتر مشهور. لمعرفة طرقه ومصادره، راجع: العودة إلى الإسلام، ص١٢٨.
↑[٢٤] . آل عمران/ ٢١-٢٢
↑[٢٥] . الأنعام/ ١٢٩
↑[٢٦] . طه/ ٤٧