كاتب السؤال: أبو جعفر الكوفي تاريخ السؤال: ١٤٤٢/٢/٢٥

نرجو بيان قول العلامة المنصور الهاشمي الخراساني حفظه اللّه تعالى حول التنازع الذي كان بين فاطمة عليها السلام وبين أبي بكر في فدك. هل الخطبة المنسوبة لها المسماة بالفدكيّة ثابتة؟

الاجابة على السؤال: ٩ تاريخ الاجابة على السؤال: ١٤٤٢/٣/٢

قال المجلسيّ في بحار الأنوار: «هَذِهِ الْخُطْبَةُ مِنَ الْخُطَبِ الْمَشْهُورَةِ الَّتِي رَوَتْهَا الْخَاصَّةُ وَالْعَامَّةُ بِأَسَانِيدَ مُتَضَافِرَةٍ»[١]، لكنّ الإنصاف أنّها ليست كما قال؛ لأنّها غير مشهورة عند غير الشيعة، ولم يروها مسندة إلا محمّد بن جرير الطبريّ الإماميّ (ت‌بعد٤١١هـ) في دلائل الإمامة[٢]، والشريف المرتضى (ت٤٣٦هـ) في الشافي[٣]، والسيّد بن طاووس (ت٦٦٤هـ) في الطرائف[٤]، وروى بعض فقراتها ابن بابويه (ت٣٨١هـ) في علل الشرائع[٥]، والمفيد (ت٤١٣هـ) في أماليه[٦]، ورواها مرسلة النعمان بن محمّد التميميّ (ت٣٦٣هـ) في شرح الأخبار[٧]، وأحمد بن علي الطبرسيّ (ت٥٤٨هـ) في الإحتجاج[٨]، ويوسف بن حاتم العامليّ (ت٦٦٤هـ) في الدرّ النظيم[٩]، وهؤلاء كما ترى كلّهم من الشيعة، وهذا يمنع القول بثبوتها؛ لأنّ القاعدة عند السيّد المنصور حفظه اللّه تعالى هي أنّ الواقعة إذا وقعت في القرن الأوّل على رؤوس الأشهاد فلا بدّ من ورودها في روايات الفريقين واشتهارها عندهما جميعًا، وعليه فإنّ تفرّد الشيعة بروايتها ممّا يمنع القول بتواترها.

نعم، يقال أنّ أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ (ت٣٢٣هـ) أيضًا رواها في كتاب السقيفة[١٠]، وقال ابن أبي الحديد (ت٦٥٦هـ): «الْجَوْهَرِيُّ هَذَا عَالِمٌ مُحَدِّثٌ كَثِيرُ الْأَدَبِ، ثِقَةٌ وَرِعٌ، أَثْنَى عَلَيْهِ الْمُحَدِّثُونَ وَرَوَوْا عَنْهُ مُصَنَّفَاتِهِ»، وصرّح قبل ذلك بأنّه ليس من رجال الشيعة[١١]، لكنّ الواقع أنّه غير معروف عند المحدّثين، ولم يبق كتابه في السقيفة، وذكره الطوسيّ في رجال الشيعة[١٢]. نعم، رواها ابن طيفور (ت٢٨٠هـ) في كتاب بلاغات النساء وقال: «ذَكَرْتُ لِأَبِي الْحُسَيْنِ زَيْدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ كَلَامَ فَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلَامُ عِنْدَ مَنْعِ أَبِي بَكْرٍ إِيَّاهَا فَدَكَ وَقُلْتُ لَهُ: إِنَّ هَؤُلَاءِ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ مَصْنُوعٌ وَأَنَّهُ مِنْ كَلَامِ أَبِي الْعَيْنَاءِ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ مَنْسُوقُ الْبَلَاغَةِ، فَقَالَ لِي: رَأَيْتُ مَشَايِخَ آلِ أَبِي طَالِبٍ يَرْوُونَهُ عَنْ آبَائِهِمْ وَيُعَلِّمُونَهُ أَبْنَاءَهُمْ وَقَدْ حَدَّثَنِيهِ أَبِي عَنْ جَدِّي يَبْلُغُ بِهِ فَاطِمَةَ عَلَى هَذِهِ الْحِكَايَةِ، وَرَوَاهُ مَشَايِخُ الشِّيعَةِ وَتَدَارَسُوهُ بَيْنَهُمْ قَبْلَ أَنْ يُولَدَ جَدُّ أَبِي الْعَيْنَاءِ، وَقَدْ حَدَّثَ بِهِ الْحَسَنُ بْنُ عَلْوَانَ عَنْ عَطِيَّةِ الْعُوفِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْحَسَنِ يَذْكُرُهُ عَنْ أَبِيهِ. ثُمَّ قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ: وَكَيْفَ يُذْكَرُ هَذَا مِنْ كَلَامِ فَاطِمَةَ فَيُنْكِرُونَهُ؟! وَهُمْ يَرْوُونَ مِنْ كَلَامِ عَائِشَةَ عِنْدَ مَوْتِ أَبِيهَا مَا هُوَ أَعْجَبُ مِنْ كَلَامِ فَاطِمَةَ يَتَحَقَّقُونَهُ، لَوْلَا عَدَاوَتُهُمْ لَنَا أَهْلَ الْبَيْتِ! ثُمَّ ذَكَرَ الْحَدِيثَ»[١٣]، ولكن لا ندري ما معنى هذا الكلام من ابن طيفور؛ لأنّه لم يدرك زيدًا، وقد ولد في سنة ٢٠٤ وقتل زيد في سنة ١٢٢! ثمّ لا يخفى ما في لهجته من أمارات التشيّع؛ كما قال آغا بزرك الطهرانيّ في ترجمته: «لَهُ <بَلَاغَاتُ النِّسَاءِ> الَّذِي يَظْهَرُ تَشَيُّعُ مُؤَلِّفِهِ مِنْ طَبْعِهِ الْأَوَّلِ سَنَةَ ١٣٢٦ وَقَدْ حُرِّفَ فِي الطَّبْعِ الثَّانِي»[١٤]، وهذه هي الحال بالنسبة لابن حمدون (ت٥٦٢هـ) الذي ذكر الخطبة في تذكرته بدون إسناد؛ فإنّه قدّم أقوال عليّ والحسن والحسين وعليّ بن الحسين وجعفر الصادق والباقر وسائر أهل البيت على أقوال أبي بكر وعمر وسائر الصحابة، وهذا مغاير لما يعرف به المؤلّفون من أهل السنّة، ومن القريب جدًّا أنّه أخذ الخطبة من بعض كتب الشيعة، فإنّه لم يذكر مأخذه وإنّما قال: «قِيلَ لَمَّا بَلَغَ فَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلَامُ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ مِنْ مَنْعِهَا فَدَكًا لَاثَتْ خِمَارَهَا عَلَى رَأْسِهَا» إلى آخر الخبر[١٥]، وكذلك أبو سعد الآبيّ (ت٤٢١هـ)؛ فإنّه أيضًا ذكرها بدون إسناد فقال: «قَالُوا لَمَّا بَلَغَ فَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلَامُ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ مِنْ مَنْعِهَا فَدَكًا لَاثَتْ خِمَارَهَا عَلَى رَأْسِهَا» إلى آخر الخبر[١٦]، وكذلك سبط بن الجوزي (ت٦٥٤هـ)؛ فإنّه أيضًا ذكرها مرسلة باختصار، إلا أنّه نسبها إلى هشام بن محمّد الكلبيّ، وهو معروف بالتشيّع، ولذلك يمكن القول أنّ الخطبة لم ترد من غير طريق الشيعة، وهذا ما حمل أهل الحديث على إنكارها؛ كما قال ابن قتيبة: «قَدْ كُنْتُ كَتَبْتُهُ وَأَنَا أَرَى أَنَّ لَهُ أَصْلًا، ثُمَّ سَأَلْتُ عَنْهُ رِجَالَ الْحَدِيثِ فَقَالَ لِي بَعْضُ نَقَلَةِ الْأَخْبَارِ: أَنَا أَسَنُّ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ وَأَعْرِفُ مَنْ عَمِلَهُ»[١٧]!

بناء على هذا، فإنّ الخطبة ليست متواترة، لكنّها من أخبار الآحاد الموجودة في مصادر الشيعة، وفي ألفاظها اختلاف كثير، والراجح أنّ لها أصلًا ثابتًا أصابه الدسّ والتحريف، ومثال ذلك ما وقع فيها من الأمور التي يستبعدها العقل السليم؛ كقول الراوي: «وَلَمْ يَكُنْ عُمَرُ حَاضِرًا، فَكَتَبَ لَهَا أَبُو بَكْرٍ إِلَى عَامِلِهِ بِرَدِّ فَدَكٍ كِتَابًا، فَأَخْرَجَتْهُ فِي يَدِهَا، فَاسْتَقْبَلَهَا عُمَرُ، فَأَخَذَهُ مِنْهَا وَتَفَلَ فِيهِ وَمَزَّقَهُ، وَقَالَ: لَقَدْ خَرَفَ ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ وَظَلَمَ»؛ نظرًا لأنّه من البعيد جدًّا أن يتفل عمر في كتاب أبي بكر ويمزّقه ثمّ يقول فيه مثل هذا القول القبيح وهو خليفة المسلمين؛ لأنّ ذلك إهانة عظيمة له قبل أن يكون إهانة لفاطمة، وما كان عمر يبغض أبا بكر إن كان يبغض فاطمة كما يزعم الشيعة! فلعلّ الأمر كان أخفّ من هذا، فزادوه شدّة بمقتضى عادتهم، وممّا يشهد على ذلك قول سبط بن الجوزي: «قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي الْقَاسِمُ بْنُ حَكِيمٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ يَقُولُ: جَاءَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَقَالَتْ: يَا أَبَا بَكْرٍ! أَفِي كِتَابِ اللَّهِ أَنْ تَرِثَكَ ابْنَتُكَ وَلَا أَرِثَ أَبِي؟ فَاسْتَعْبَرَ أَبُو بَكْرٍ بَاكِيًا، ثُمَّ قَالَ: بِآبَائِي أَبُوكِ وَبِآبَائِي أَنْتِ! ثُمَّ نَزَلَ، فَكَتَبَ لَهَا بِفَدَكٍ، وَدَخَلَ عَلَيْهِ عُمَرُ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقَالَ: كِتَابٌ كَتَبْتُهُ لِفَاطِمَةَ مِيرَاثُهَا مِنْ أَبِيهَا، قَالَ: فَمَاذَا تُنْفِقُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ حَارَبَتْكَ الْعَرَبُ كَمَا تَرَى؟ ثُمَّ أَخَذَ عُمَرُ الْكِتَابَ فَشَقَّهُ»[١٨]، وهذا خبر مرسل انفرد بذكره سبط بن الجوزي، لكنّه أقرب من خبر الشيعة إلى العقل السليم؛ لأنّه يدلّ على أنّ الكتاب لم يكن في يد فاطمة وأنّ عمر أخذه من يد أبي بكر فشقّه من دون أن يتفل فيه أو يذكر أبا بكر بسوء أو يواجه فاطمة بتلك الطريقة القبيحة، وهذا مثال واضح على مبالغات الشيعة في مثل هذه الأخبار ممّا ينشأ من بغضهم لأبي بكر وعمر ويؤجّج نار الغضب عليهما، وبالتالي نار العداوة والبغضاء بين المسلمين.

نعم، لا خلاف في أنّ فاطمة عليها السلام رجعت إلى أبي بكر وسألته ميراثها من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، فمنعها أبو بكر مستندًا إلى ما رواه عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم في أنّ الأنبياء لا يورّثون، فردّت عليه فاطمة عليها السلام مستندًا إلى عموم كتاب اللّه وعدم جواز تخصيصه بالسنّة؛ كما جاء في الخطبة أنّها قالت: «يَا ابْنَ أَبِي قُحَافَةَ، أَفِي كِتَابِ اللَّهِ أَنْ تَرِثَ أَبَاكَ وَلَا أَرِثَ أَبِي؟! لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا فَرِيًّا! أَفَعَلَى عَمْدٍ تَرَكْتُمْ كِتَابَ اللَّهِ وَنَبَذْتُمُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ؟! إِذْ يَقُولُ: ﴿وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ[١٩] وَقَالَ فِيمَا اقْتَصَّ مِنْ خَبَرِ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذْ قَالَ: رَبِّ ﴿هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا ۝ يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ[٢٠] وَقَالَ: ﴿وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ[٢١] وَقَالَ: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ[٢٢] وَقَالَ: ﴿إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ[٢٣]، وَزَعَمْتُمْ أَلَّا حُظْوَةَ لِي وَلَا إِرْثَ مِنْ أَبِي وَلَا رَحِمَ بَيْنَنَا؟! أَفَخَصَّكُمُ اللَّهُ بِآيَةٍ أَخْرَجَ مِنْهَا أَبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ؟! أَمْ أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِخُصُوصِ الْقُرْآنِ وَعُمُومِهِ مِنْ أَبِي وَابْنِ عَمِّي؟!»، وجاء في غير الخطبة أنّ أبا بكر لمّا استند إلى روايته عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، «قَالَ لَهُ عَلِيٌّ: وَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ، وَقَالَ زَكَرِيَّا: ﴿يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: هُوَ هَكَذَا وَأَنْتَ وَاللَّهِ تَعْلَمُ مِثْلَمَا أَعْلَمُ، فَقَالَ عَلِيٌّ: هَذَا كِتَابُ اللَّهِ يَنْطِقُ»[٢٤]! فلمّا أصرّ أبو بكر على قوله هجرته فاطمة عليها السلام فلم تكلّمه حتّى توفّيت، ويرى السيّد المنصور حفظه اللّه تعالى أنّها أصابت وأخطأ أبو بكر؛ لأنّ ما استندت إليه فاطمة عليها السلام هو القاعدة عنده؛ كما بيّن ذلك في كتاب «العودة إلى الإسلام» تحت عنوان «عدم إمكان تخصيص القرآن بسنّة النّبيّ»، ولا يعني هذا أنّ أبا بكر كذب على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم؛ لأنّ ما رواه عنه من قوله أنّ الأنبياء لا يورّثون كان صحيحًا رواه عنه أهل البيت أنفسهم؛ كما روي بطرق معتبرة عن الباقر والصادق عليهما السلام أنّهما قالا: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: «إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا وَلَكِنْ وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَ مِنْهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ»[٢٥]، والظاهر أنّ أبا بكر سمع هذا الحديث من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، فحمله على أنّ أولاد الأنبياء لا يرثون آباءهم إن تركوا مالًا، والحقّ أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم لم يرد هذا؛ لأنّ هذا مخالف لكتاب اللّه كما قال عليّ وفاطمة عليهما السلام، ولكنّه أراد أنّ الأنبياء لم يكن لديهم مال حتّى يورّثوه، وكان هذا على سبيل ذكر الغالب، أو أراد أنّهم لم يورّثوا الناس مالًا، بل ورّثوهم علمًا، وكان هذا بالنسبة إلى الناس دون أرحامهم، أو أراد أنّ ميراثهم الأصليّ والحقيقيّ لم يكن المال، بل العلم، وكان هذا على سبيل قول اللّه تعالى: ﴿فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ[٢٦]، مع أنّهم كذّبوه بصراحة؛ كما قال تعالى: ﴿فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ[٢٧]، فأراد سبحانه وتعالى أنّ أصل تكذيبهم في الحقيقة يتوجّه إلى اللّه وآياته. لذلك، قال ابن عبّاس وعكرمة وأبو صالح والضحاك وقتادة والسدّيّ وغيرهم من قدماء المفسّرين في قول زكريّا عليه السلام: ﴿يَرِثُنِي أنّه يعني «يرثني مالي» ولم يبالوا بما فهم أبو بكر من روايته[٢٨]، واختار قولهم ابن جرير، وحكى أبو منصور الماتُريدي (ت٣٣٣هـ) عن الحسن البصريّ أنّه قال في قوله: ﴿وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي[٢٩]: «خَافَ مَوَالِيَهُ أَنْ يَرِثُوا مَالَهُ، فَأَمَّا عِلْمُهُ وَنُبُوَّتُهُ فَمِمَّا لَا يُورَثُ»[٣٠]، وروى في ذلك عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أنّه قال: «رَحِمَ اللَّهُ أَخِي زَكَرِيَّا، مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ وَرَثَةِ مَالِهِ حِينَ يَقُولُ: ﴿فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا ۝ يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ»[٣١]!

هذا تأويل ما رواه أبو بكر عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم من أنّه قال: «إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا يُوَرِّثُونَ» أو «نَحْنُ مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُوَرِّثُ»، ولكن روي أنّه زاد في روايته أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم قال: «مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ»، وهذه زيادة لا يمكن صدورها من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم بهذا السياق؛ لأنّها مخالفة لكتاب اللّه ولا يمكن تأويلها بما ذكرنا، فلعلّها غلط أو تحريف من بعض الرواة، والشاهد على هذا أنّها لم تُذكر في بعض الروايات؛ كما روت عائشة قالت: «أَنَّ فَاطِمَةَ أَرْسَلَتْ إِلَى أَبِي بَكْرٍ تَسْأَلُهُ مِيرَاثَهَا مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ مِنْ صَدَقَتِهِ، وَمِمَّا تَرَكَ مِنْ خُمُسِ خَيْبَرَ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَا نُورَثُ»[٣٢]، وروى أبو هريرة قال: «أَنَّ فَاطِمَةَ جَاءَتْ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَتْ: مَنْ يَرِثُكَ؟ قَالَ: أَهْلِي وَوَلَدِي، قَالَتْ: فَمَا لِي لَا أَرِثُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: <إِنَّا لَا نُورَثُ> وَلَكِنِّي أَعُولُ مَنْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يَعُولُهُ، وَأُنْفِقُ عَلَى مَنْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ»[٣٣]، والأقرب من ذلك أنّ الزيادة كانت من كلام أبي بكر، فزعمها الرواة من كلام رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، وهذا الإحتمال قويّ في رواية أمّ هانئ: «أَنَّ فَاطِمَةَ دَخَلَتْ عَلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَتْ: لَوْ مِتَّ مَنْ كَانَ يَرِثُكَ؟ قَالَ: وَلَدِي وَأَهْلِي، قَالَتْ: فَمَا لَنَا لَا نَرِثُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا يُوَرِّثُونَ، مَا تَرَكُوهُ فَهُوَ صَدَقَةٌ»[٣٤]، فلا يبعد أن يكون كلام رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم إلى «لَا يُوَرِّثُونَ»، ويكون الباقي تعليقًا وتفسيرًا من أبي بكر؛ نظرًا لأنّه إذا كان الأنبياء لا يورّثون فلا بدّ من أن يكون ما تركوه صدقة على المسلمين وفقًا لما فهمه أبو بكر، وهذه هي الحال في رواية عمر إذ قال: «حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ -وَحَلَفَ بِاللَّهِ أَنَّهُ لَصَادِقٌ- أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: إِنَّ النَّبِيَّ لَا يُورَثُ، وَإِنَّمَا مِيرَاثُهُ فِي فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَالْمَسَاكِينِ»[٣٥]، فلا يبعد أن يكون كلام رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم إلى «لَا يُورَثُ»، ويكون الباقي تعليقًا وتفسيرًا من أبي بكر، وممّا يقوّي هذا الإحتمال أنّ حذيفة أيضًا روى عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أنّه قال: «إِنَّ النَّبِيَّ لَا يُورَثُ»[٣٦] ولم يذكر هذه الزيادة.

ثمّ إن ثبت أنّ أبا بكر روى هذه الزيادة عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم بهذا السياق، فلا بدّ من حملها على خطأ أو نسيان منه في الرواية؛ فإنّه لم يكن معصومًا، والعدالة لا تمنع الخطأ والنسيان، فلعلّه لم يحفظ قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم بالضبط، ولذلك لم تقتنع فاطمة عليها السلام بروايته دون أن تتّهمه بالكذب، ولعلّ سهوه ما ذهب إليه بعض متكلّمي الإماميّة من أنّ الصدقة في قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم كانت منصوبة على الحال والتمييز، وكان المعنى أنّ ما تركه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم على وجه الصدقة لا يورث عنه[٣٧]، فاشتبه على أبي بكر عندما وقف رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم على الصدقة ولم يُعربها، فحملها على الخبريّة. لذلك، كان أولى به أن يتمسّك بكتاب اللّه ولا يخصّصه برواية يمكن أن يكون قد أخطأ في لفظها أو معناها؛ كما كان أولى به أن يقبل من عليّ وفاطمة عليهما السلام إذ دعواه إلى كتاب اللّه وعدم تخصيصه بروايته، والظنّ به أنّه لم يتعمّد ظلمًا، بل أخطأ؛ لأنّ ذلك خطأ شائع جدًّا بين المسلمين إذ يخصّصون كتاب اللّه برواياتهم، ولا يقبلون من السيّد المنصور حفظه اللّه تعالى إذا ينهاهم عن ذلك، ومن ثمّ لا يحقّ للشيعة أن يعيّروا أبا بكر بفعله؛ لأنّه لم يفعل إلا كما يفعلون، ومن القبيح جدًّا أن يعيّر الرجل الآخرين بعيب هو فيه؛ كما قال اللّه تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ[٣٨]، وقال: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ[٣٩].

↑[١] . بحار الأنوار للمجلسي، ج٢٩، ص٢١٥
↑[٢] . دلائل الإمامة للطبري الإمامي، ص١٠٩
↑[٣] . الشافي في الإمامة للشريف المرتضى، ج٤، ص٦٩
↑[٤] . الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف للسيّد بن طاووس، ص٢٦٣
↑[٥] . علل الشرائع لابن بابويه، ج١، ص٢٤٨
↑[٦] . الأمالي للمفيد، ص٤٠
↑[٧] . شرح الأخبار في فضائل الأئمة الأطهار لابن حيّون، ج٣، ص٣٤
↑[٨] . الإحتجاج للطبرسي، ج١، ص١٣١
↑[٩] . الدر النظيم لابن أبي حاتم، ص٤٦٥
↑[١٠] . قال ذلك الإربلي في كشف الغمّة (ج٢، ص١٠٨) وابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة (ج١٦، ص٢١١).
↑[١١] . انظر: شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، ج١٦، ص٢١٠.
↑[١٢] . الفهرست للطوسي، ص٨٣
↑[١٣] . بلاغات النساء لابن طيفور، ص١٦
↑[١٤] . الذريعة إلى تصانيف الشيعة للطهراني، ج٢٦، ص١٢٦
↑[١٥] . التذكرة الحمدونية لابن حمدون، ج٦، ص٢٥٥
↑[١٦] . نثر الدر في المحاضرات للآبي، ج٤، ص٥
↑[١٧] . غريب الحديث لابن قتيبة، ج١، ص٥٩٠
↑[١٨] . مرآة الزمان في تواريخ الأعيان لسبط بن الجوزي، ج٤، ص٢٧٦
↑[١٩] . النّمل/ ١٦
↑[٢٠] . مريم/ ٥-٦
↑[٢١] . الأحزاب/ ٦
↑[٢٢] . النّساء/ ١١
↑[٢٣] . البقرة/ ١٨٠
↑[٢٤] . الطبقات الكبرى لابن سعد، ج٢، ص٣١٥
↑[٢٥] . بصائر الدرجات للصفار، ص٢٣ و٣٠؛ الكافي للكليني، ج١، ص٣٢ و٣٤؛ ثواب الأعمال وعقاب الأعمال لابن بابويه، ص١٣١
↑[٢٦] . الأنعام/ ٣٣
↑[٢٧] . آل عمران/ ١٨٤
↑[٢٨] . انظر: تفسير يحيى بن سلام، ج١، ص٢١٤؛ تفسير الطبري، ج١٥، ص٤٥٧؛ تفسير السمرقندي، ج٢، ص٣٦٨؛ الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي، ج٥، ص٤٨٠.
↑[٢٩] . مريم/ ٥
↑[٣٠] . تفسير الماتريدي، ج٧، ص٢٢٠
↑[٣١] . تفسير يحيى بن سلام، ج١، ص٢١٤؛ تفسير الطبري، ج١٥، ص٤٥٩؛ تفسير ابن أبي حاتم، ج٧، ص٣٩٧؛ تفسير الثعلبي، ج٦، ص٢٠٦؛ تفسير ابن عطية، ج٤، ص٤؛ الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي، ج٥، ص٤٨٠
↑[٣٢] . سنن النسائي، ج٧، ص١٣٢؛ علل الدارقطني، ج١، ص٢٦٧
↑[٣٣] . مسند أحمد، ج١، ص٢٢٦؛ سنن الترمذي، ج٤، ص١٥٧؛ فوائد أبي بكر النصيبي، ص١٠؛ السنن الكبرى للبيهقي، ج٦، ص٤٩٣
↑[٣٤] . علل الدارقطني، ج١، ص٢٣١؛ التلخيص الحبير لابن حجر، ج٣، ص٢١٦
↑[٣٥] . مسند أحمد، ج١، ص٢٤٠؛ جزء القاضي أبي القاسم الميانجي، ص٢٠؛ التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد لابن عبد البر، ج٨، ص١٦٢
↑[٣٦] . السنن الكبرى للبيهقي، ج٦، ص٤٩٣
↑[٣٧] . انظر: كتاب «حديث نحن معاشر الأنبياء» للمفيد.
↑[٣٨] . الصّفّ/ ٢
↑[٣٩] . البقرة/ ٤٤