موقف القرآن من خبر الواحد بدون قرينة قطعيّة (النمل/ 20-28)

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم ﴿وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ ۝ لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ۝ فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ ۝ إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ ۝ وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ ۝ أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ ۝ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ۩ ۝ قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ۝ اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ[١].

نرى في هذه الآيات الكريمة أنّ الهدهد أخبر سليمان عليه السلام بما وجد في سبأ، ولكنّ سليمان عليه السلام لم يصدّق الخبر ولم يكذّبه، بل قام بالفحص عن القرينة وطلب الدّليل على صحّته؛ لأنّه كان خبر واحد، وخبر الواحد لا يفيد اليقين؛ لا سيّما في مثل هذا الأمر المهمّ الذي يتعلّق بالدين. لذلك، قام سليمان عليه السلام ببعث كتاب إلى سبأ ليتحقّق من خبر الهدهد. رغم أنّ الهدهد كان صالحًا مهتمًّا بأمر الدين ونشر التوحيد وكان من أصحاب سليمان عليه السلام، إلا أنه بالأصل لا حجّيّة لخبر الواحد بدون قرينة قطعيّة. بالطبع مثل هذا الخبر متيسّر التحقّق منه؛ لأنّه خبر عن قضيّة موجودة حين الإخبار. لذلك، بعث سليمان عليه السلام الكتاب الذي بواسطته تبيّن مضمون الخبر المنقول من قبل الهدهد. هذا يعني أنّ خبر الواحد في حدّ ذاته لا يوصف بالصدق ولا بالكذب، إلا أن يكون مخالفًا لصريح العقل أو الشرع؛ فإنّه كذب لا محالة. فإن لم يكن كذلك وكان محتمل الصدق، فإنّه ليس حجّة، إلا إذا كان له قرينة تؤدّي إلى اليقين بصحّته، وإن كان المخبر صالحًا. فإن لم يكن له مثل هذه القرينة، فهو والكذب سواء؛ لأنّه لا يجوز الإعتماد عليه في عقيدة أو عمل؛ كما لم يعتمد عليه سليمان عليه السلام حتّى تبيّن له من خلال الفحص عن القرائن القطعيّة. هذا في حين أنّ خبر الهدهد كان متيسّر التحقّق منه؛ لأنّ الخبر ورد وكان الفعل مستمرّ والفاعل حيّ يمكن الوصول إليه ومن الصعب جدًّا الكذب في مثل هذه الحالة ولا يرتكبه إلا من كانت له جرأة عظيمة، فكيف بالأخبار الواردة عن النبيّ وآله وأصحابه؟! مع أنّها أخبار عن أفعال انقطعت ومرّ عليها قرون ولا يمكن الوصول إلى فاعليها! بناء على هذا، فمن الواضح أنّ الإعتماد على أخبار الآحاد المجرّدة عن القرائن القطعيّة هو مخالف لكتاب اللّه ومخالف لنهج أنبيائه؛ لا سيّما بالنظر إلى أنّ هذه الأخبار تفيد الظنّ، والظنّ لا يغني من الحقّ شيئًا؛ كما قال اللّه تعالى: ﴿وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا ۚ إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ[٢].

هذا ما بيّنه سيّدنا المنصور حفظه اللّه تعالى واتّخذه معيارًا لقوله وفعله وأساسًا لكتابه الذي يعلم أولوا الألباب ثقله علميًّا ويعترفون بأنّه سبيل هدى لفهم الاسلام الحقيقيّ، وهذا المعيار هو مقتضى العقل السليم الذي لا يعتمد على إدراك سوى اليقين، واليقين لا يتحصّل إلا بالخبر المتواتر أو الخبر الذي معه دليل حاسم على صحّته. لكن للأسف ضلّ أكثر المسلمين في ظلمات الأخبار الظنّيّة والوهميّة ضلالًا بعيدًا؛ لأنّهم نبذوا كتاب اللّه وراء ظهورهم وخالفوا نهج الأنبياء، كما شرحه سيّدنا المنصور في كتابه القيّم «العودة إلى الإسلام».

↑[١] . النّمل/ ٢٠-٢٨
↑[٢] . يونس/ ٣٦