كاتب السؤال: ضماد العوذلي | تاريخ السؤال: ١٤٤٧/٢/٣ |
كيف نفهم قول اللّه تعالى: «وَمَنْ لَّمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ» [المائدة/ ٤٤]، في ضوء قول ابن عباس رضي اللّه عنه: «كانوا على كفر دون كفر»؟ وما الحكمة من تقديم الكفر الأصغر على الكفر الأكبر في هذه المسألة؟ وجزاكم اللّه عنّا خير الجزاء.
الاجابة على السؤال: ٢ | تاريخ الاجابة على السؤال: ١٤٤٧/٢/١٥ |
كبرت على الناس هذه الآية، فتكلّفوا تأويلها، وما كبرت عليهم إلّا لاستصغارهم الحكم بغير ما أنزل اللّه، وما هو بصغير عند اللّه؛ كمثل ما قال فيه: ﴿وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ﴾[١]، ومن المسلّم به أنّ الآية لا تُصرف عن ظاهرها إلّا عند ضرورة عقليّة أو شرعيّة، وليست هناك ضرورة إلّا ما أجمع عليه المسلمون دون الخوارج من أنّ المسلم لا يكفّر بذنب، وهو صحيح، لكنّ الذنب قد يكون كاشفًا عن الكفر؛ كالسجود للصنم، وتنجيس المصحف، وغير ذلك ممّا لا يجتمع مع الإسلام، وليس بغريب أن يكون الحكم بغير ما أنزل اللّه من هذا القبيل، بل المتسالم عليه عند المسلمين أنّ من استحلّ حرامًا معلومًا من الدّين بالضرورة فهو كافر، وإن زعم أنّه مسلم، كمستحلّ الخمر؛ لأنّ الظاهر من حاله أنّه يجحد بآية من القرآن، وقد قال اللّه تعالى: ﴿وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ﴾[٢]، وليس مستحلّ الذنب كفاعله بغير استحلال؛ لأنّه معتقد، والمعتقد كافر، والظاهر أنّ من لا يحكم بما أنزل اللّه وهو عالم بما أنزل اللّه، إنّما يستنكف عن ذلك لاعتقاده بأنّ ما أنزل اللّه غير صالح، وهذا كفر بواح، ومن يحكم بغير ما أنزل اللّه وهو عالم بما أنزل اللّه، إنّما يفعل ذلك لاعتقاده بأنّ حكم غير اللّه أحسن من حكم اللّه، وهذا كفر بواح أيضًا؛ كما أخبرنا بعض أصحابنا، قال:
قُلْتُ لِلْمَنْصُورِ: الْحَاكِمُ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ كَافِرٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، إِذَا بَلَغَهُ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ، قُلْتُ: لِمَاذَا؟ قَالَ: لِأَنَّهُ يَقُولُ: ﴿سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾[٣].
وأخبرنا بعض أصحابنا، قال:
سَمِعْتُ الْمَنْصُورَ يَقُولُ: مَنْ حَكَمَ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مُتَعَمِّدًا فَهُوَ كَافِرٌ، قُلْتُ: كَافِرٌ دُونَ كَافِرٍ؟ قَالَ: وَهَلْ تَرَكَ مِنَ الْكُفْرِ شَيْئًا؟! قُلْتُ: هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا يَحْكُمُونَ فِي أَشْيَاءٍ كَثِيرَةٍ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ، فَتَرَاهُمْ كَافِرِينَ؟! قَالَ: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِغَيْرِ مَا يَحْكُمُونَ؟ قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: فَمَا يَحْمِلُهُمْ عَلَى ذَلِكَ؟! قُلْتُ: مُجَارَاةُ الْكَافِرِينَ، قَالَ: فَهُمْ مِنْهُمْ، قُلْتُ: إِنَّهُمْ يُصَلُّونَ! قَالَ: ذَلِكَ شَرٌّ لَهُمْ، يَجْعَلُهُمْ مُنَافِقِينَ! فَمَكَثَ هُنَيَّةً، ثُمَّ قَالَ: كُلُّ حُكْمٍ غَيْرَ حُكْمِ اللَّهِ فَهُوَ حُكْمُ الْجَاهِلِيَّةِ، ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ۚ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾[٤]؟!
نعم، من حكم بغير ما أنزل اللّه جهلًا بما أنزل اللّه فليس بكافر، ولكنّه ظالم؛ لأنّه أقدم على الحكم وليس من أهله، وذلك قول اللّه تعالى: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾[٥]، ومن تحاكم إلى الظالم فهو فاسق؛ لأنّه لم يحكم بغير ما أنزل اللّه مباشرةً، ولكنّه فعل ذلك تسبيبًا بتحكيمه الظالم، وذلك قول اللّه تعالى: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾[٦]، وبهذا يظهر الفرق بين العناوين الثلاثة حسب تفسير السيّد العلامة حفظه اللّه تعالى؛ كما أخبرنا بعض أصحابه، قال:
قُلْتُ لِلْمَنْصُورِ: كُلُّ مَنْ حَكَمَ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَهُوَ كَافِرٌ؟ قَالَ: إِنْ حَكَمَ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَالِمًا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَهُوَ كَافِرٌ، وَإِنْ حَكَمَ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ جَاهِلًا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَلَيْسَ بِكَافِرٍ، لَكِنَّهُ ظَالِمٌ أَوْ فَاسِقٌ، أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَهُ ثَلَاثَةً، فَقَالَ: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾، وَقَالَ: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾، وَقَالَ: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾؟ قُلْتُ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ الظَّالِمِ وَالْفَاسِقِ، وَهُمَا جَاهِلَانِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ؟ قَالَ: الظَّالِمُ الْحَاكِمُ، وَالْفَاسِقُ الْمُتَحَاكِمُ، قُلْتُ: وَهَلْ يَحْكُمُ الْمُتَحَاكِمُ؟! قَالَ: نَعَمْ، يَحْكُمُ بِالْحُكْمِ.
وقد يُستشكل في هذا التفسير بما رواه الناس من أنّ الحاكم إذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد[٧]، ولكنّه غير صحيح لمخالفته كتاب اللّه والحديث الصحيح المشهور: «الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ: قَاضِيَانِ فِي النَّارِ، وَقَاضٍ فِي الْجَنَّةِ، فَأَمَّا اللَّذَانِ فِي النَّارِ فَرَجُلٌ جَارَ مُتَعَمِّدًا فَهُوَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَهُوَ فِي النَّارِ، أَمَّا الَّذِي فِي الْجَنَّةِ فَرَجُلٌ اجْتَهَدَ فَأَصَابَ الْحَقَّ، فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ»[٨]؛ قال أبو داود: «هَذَا أَصَحُّ شَيْءٍ فِي الْبَابِ»[٩]، وقال أبو هاشم: «لَوْلَا هَذَا الْحَدِيثُ لَقُلْنَا: إِنَّ الْقَاضِيَ إِذَا اجْتَهَدَ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ»[١٠]، وقد يمكن تصحيح الرواية الأولى بحملها على الحاكم الذي حكّمه خليفة اللّه في الأرض؛ لأنّه مطيع في كلّ حال إذا لم يأل، والمؤيّد لذلك حديث معاذ إذ بعثه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم حاكمًا، فقال له: «كَيْفَ تَقْضِي إِنْ عَرَضَ لَكَ قَضَاءٌ؟ قَالَ: أَقْضِي بِكِتَابِ اللَّهِ، قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدْهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ قَالَ: أَقْضِي بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ، قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدْهُ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ؟ قَالَ: أَجْتَهِدُ رَأْيِي لَا آلُو»، فضرب بيده في صدره وقال: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ لِمَا يُرْضِي رَسُولَ اللَّهِ»[١١]، وأمّا الحاكم الذي لم يحكّمه خليفة اللّه في الأرض فليس له إلّا النار وإن اجتهد؛ لأنّه متكلّف، وهذا وجه اختاره السيّد العلامة حفظه اللّه تعالى؛ كما أخبرنا بعض أصحابه، قال:
سَأَلْتُ الْمَنْصُورَ عَمَّا يَرْوِي النَّاسُ أَنَّ الْحَاكِمَ إِذَا اجْتَهَدَ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ، فَقَالَ: ذَاكَ الَّذِي حَكَّمَهُ خَلِيفَةُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ، وَأَمَّا الْحَاكِمُ الْمُتَكَلِّفُ إِذَا اجْتَهَدَ فَأَصَابَ فَعَلَيْهِ ذَنْبٌ وَاحِدٌ، وَإِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَعَلَيْهِ ذَنْبَانِ! أَلَمْ يَبْلُغْكَ قَوْلُ عَلِيٍّ لِشُرَيْحٍ: «قَدْ جَلَسْتَ مَجْلِسًا لَا يَجْلِسُهُ إِلَّا نَبِيٌّ، أَوْ وَصِيُّ نَبِيٍّ، أَوْ شَقِيٌّ»؟!