١ . أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْهَرَوِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ الْمَنْصُورَ الْهَاشِمِيَّ الْخُرَاسَانِيَّ يَقُولُ: أَكْثِرُوا زِيَارَةَ الْقُبُورِ، فَإِنَّهَا مُفِيدَةٌ لِلْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ!

٢ . أَخْبَرَنَا أَبُو إِبْرَاهِيمَ السَّمَرْقَنْدِيُّ، قَالَ: قُلْتُ لِلْمَنْصُورِ: قَدْ أَضْعَفَتْنِي نَفْسِي، فَبِمَا أُجَاهِدُهَا حَتَّى أَغْلِبَهَا؟ قَالَ: جَاهِدْهَا بِذِكْرِ الْمَوْتِ، وَأَكْثِرْ زِيَارَةَ الْقُبُورِ!

٣ . أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ الْقَاسِمِ الطِّهْرَانِيُّ، قَالَ: قَالَ لِيَ الْمَنْصُورُ: يَسَعُكَ أَنْ تُرَافِقَنِي إِلَى بَعْضِ هَذِهِ التِّلَالِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فَخَرَجَ مَاشِيًا وَخَرَجْتُ مَعَهُ، فَقُلْتُ: لَوْ أَمَرْتَنِي لَجِئْتُكَ بِسَيَّارَةٍ، قَالَ: الْمَشْيُ أَحَبُّ إِلَيَّ، فَانْطَلَقَ حَتَّى بَلَغَ مَقَابِرَ الْقَوْمِ، فَزَارَهَا وَاسْتَغْفَرَ لِأَهْلِهَا، ثُمَّ رَجَعَ وَهُوَ سَاكِتٌ مُتَفَكِّرٌ يَذْكُرُ اللَّهَ تَعَالَى، فَلَمَّا بَلَغَ دَارَهُ أَقْبَلَ عَلَيَّ وَقَالَ: يَا حَسَنُ! أَجْهَدْتُكَ؟ قُلْتُ: لَا، جُعِلْتُ فِدَاكَ، قَالَ: يَا حَسَنُ! إِذَا أَحْسَسْتَ فِي قَلْبِكَ قَسَاوَةً فَاخْرُجْ إِلَى مَقَابِرِ قَوْمِكَ، وَاسْتَيْقِنْ أَنَّ لَكَ فِيهَا مَكَانًا لَا بُدَّ أَنْ تَحِلَّهُ وَاذْكُرْ عَاقِبَةَ الْأُمُورِ!

٤ . أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَبِيبٍ الطَّبَرِيُّ، قَالَ: كَانَ الْمَنْصُورُ يُكْثِرُ الْخُرُوجَ إِلَى مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ، وَرُبَّمَا يَخْرُجُ يَوْمَ السَّبْتِ، وَكَانَ إِذَا يَدْخُلُهَا يَقُولُ: «السَّلَامُ عَلَى أَهْلِ الدِّيَارِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، أَنْتُمْ لَنَا فَرَطٌ وَنَحْنُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ»، وَكَانَ إِذَا يَمُرُّ عَلَى قَبْرٍ يَقُومُ بِحِذَائِهِ، فَيَنْظُرُ فِيهِ، فَيَقْرَأُ كَتِيبَتَهُ، وَكَانَ إِذَا يَجِدُ قَبْرَ شَابٍّ يَجْلِسُ عِنْدَهُ فَيُخَاطِبُ نَفْسَهُ فَيَقُولُ: «وَيْحَكَ أَيُّهَا الشَّابُّ! أَغَرَّكَ شَبَابُكَ؟ وَهَذَا شَابٌّ مِثْلُكَ، وَقَدْ أَكَلَهُ الْمَوْتُ وَشَرِبَهُ! فَلَا يَغُرَّنَّكَ شَبَابُكَ، فَيَصْطَادُكَ الْمَوْتُ عَلَى غِرَّةٍ»، قَالَ: فَمَرَّ يَوْمًا عَلَى قُبُورِ شُهَدَاءِ الْقَوْمِ عَلَيْهِمْ صُوَرُهُمْ مِثْلُ الطَّوَاوِيسِ، فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ نَظَرَ حَسْرَةٍ فَقَالَ: فِيمَ قُتِلْتُمْ يَا جُنُودَ الظَّالِمِينَ؟! لَا وَاللَّهِ لَيْسَ الشَّهِيدُ مَنْ قُتِلَ تَحْتَ رَايَتِهِمْ! ثُمَّ نَظَرَ، فَرَأَى فِيهِمْ صُورَةَ شَابٍّ، فَقَالَ: هَذَا شَهِيدٌ! قُلْتُ: أَكُنْتَ تَعْرِفُهُ جُعِلْتُ فِدَاكَ؟! قَالَ: لَا، وَلَكِنْ قَدْ رَأَيْتُهُ مَعَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ! قَالَ: فَلَمْ أَفْهَمْ مُرَادَهُ، وَلَمْ أَتَجَرَّأْ عَلَى السُّؤَالِ، فَانْطَلَقَ حَتَّى إِذَا بَلَغَ قَنَاةً، فَجَلَسَ لِيُجَدِّدَ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ، فَمَرَّ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ يُشَيِّعُونَ جَنَازَةً لَهُمْ وَهُمْ بَاكُونَ، فَلَمَّا رَءآهُمْ قَالَ:

النَّفْسُ تَبْكِي عَلَى الدُّنْيَا وَقَدْ عَلِمَتْ

أَنَّ السَّعَادَةَ فِيهَا تَرْكُ مَا فِيهَا

لَا دَارَ لِلْمَرْءِ بَعْدَ الْمَوْتِ يَسْكُنُهَا

إِلَّا الَّتِي كَانَ قَبْلَ الْمَوْتِ بَانِيهَا

قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، إِنَّهُمْ يَرْوُونَ أَنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ! قَالَ: إِنَّمَا يُعَذِّبُهُ بُكَاءُ أَهْلِهِ كَمَا كَانَ يُعَذِّبُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى! ثُمَّ قَامَ إِلَى شَجَرَةٍ عَظِيمَةٍ، فَاسْتَتَرَ بِهَا، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، فَلَمَّا فَرِغَ مِنْ صَلَاتِهِ رَفَعَ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ وَقَالَ: «اللَّهُمَّ إِلَيْكَ أَفْضَتِ الْقُلُوبُ، وَمُدَّتِ الْأَعْنَاقُ، وَشَخَصَتِ الْأَبْصَارُ، وَنُقِلَتِ الْأَقْدَامُ، وَأُنْضِيَتِ الْأَبْدَانُ، اللَّهُمَّ قَدْ صَرَّحَ مَكْنُونُ الشَّنَآنِ، وَجَاشَتْ مَرَاجِلُ الْأَضْغَانِ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَشْكُو إِلَيْكَ فَقْدَ نَبِيِّنَا، وَغَيْبَةَ إِمَامِنَا، وَكَثْرَةَ عَدُوِّنَا، وَقِلَّةَ عَدَدِنَا، رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ».

٥ . أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الطَّالَقَانِيُّ، قَالَ: قُلْتُ لِلْمَنْصُورِ: إِنَّهُمْ يَنْهَوْنَ النَّاسَ عَنْ شَدِّ الرِّحَالِ إِلَى الْمَقَابِرِ، وَيَسْتَنْبِطُونَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: مَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِي هَذَا، وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى»، فَقَالَ: لَيْسَ حَيْثُ ذَهَبُوا، الْمَسَاجِدُ سَوَاءٌ إِلَّا الثَّلَاثَةَ، وَلَيْسَ الْمَقَابِرُ مِنَ الْمَسَاجِدِ، فَشُدُّوا الرِّحَالَ إِلَيْهَا إِنْ شِئْتُمْ، وَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ أَوْثَانًا، بِأَنْ تَرْفَعُوهَا، وَتُزَيِّنُوهَا، وَتَتَزَاحَمُوا عَلَيْهَا، وَتَطُوفُوا بِهَا، وَتَنْذُرُوا لَهَا، وَتَسْأَلُوهَا الْحَوَائِجَ، وَتَضَعُوا عَلَيْهَا الْعُقَدَ وَالْأَقْفَالَ، كَمَا يَفْعَلُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ.

٦ . أَخْبَرَنَا صَالِحُ بْنُ مُحَمَّدٍ السَّبْزَوَارِيُّ، قَالَ: رَأَيْتُ عِنْدَ قَبْرِ عَلِيِّ بْنِ مُوسَى شَابًّا هَاشِمِيًّا وَجْهُهُ كَدَائِرَةِ الْقَمَرِ، وَهُوَ يَقُولُ لِلْمُزْدَحِمِينَ: مَا بِهَذَا أُمِرْتُمْ -يَعْنِي بِالْإِزْدِحَامِ عَلَى الْقَبْرِ لِاسْتِلَامِهِ وَطَوَافِهِ.

٧ . أَخْبَرَنَا أَبُو إِبْرَاهِيمَ السَّمَرْقَنْدِيُّ، قَالَ: نَهَى الْمَنْصُورُ عَنْ مُخَاطَبَةِ الْأَمْوَاتِ إِلَّا عِنْدَ قُبُورِهِمْ، وَقَالَ: إِنَّهُمْ يَسْمَعُونَ أَصْوَاتَ الزَّائِرِينَ.