كاتب السؤال: أبو هادي المالكي تاريخ السؤال: ١٤٤٢/٢/٢

هل يجوز السفر إلى بلاد الكفر أو التوطّن فيها؟ ما هو المعيار الذي يمكن القول من خلاله أنّ البلد بلد كفر؟

الاجابة على السؤال: ٤ تاريخ الاجابة على السؤال: ١٤٤٢/٢/٨

كلّ بلد حاكمه غير مسلم فهو بلد كفر، ولا بأس بالسفر إليه في الهدنة مع الأمن على النفس والدّين لأجل التجارة والدّعوة إلى الإسلام وغير ذلك من المقاصد المشروعة، ولكن لا يجوز التوطّن فيه، وذلك لوجوه:

الأوّل أنّه قبول حاكميّة الكافرين، وهو غير جائز؛ لقول اللّه تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ۚ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا[١] وقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ۚ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا[٢] وقوله تعالى: ﴿تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ[٣] وقوله تعالى: ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا[٤]، وروي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أنّه قال: «الْإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى عَلَيْهِ»[٥].

الثاني أنّه ركون إلى الكافرين، وهو غير جائز؛ لقول اللّه تعالى: ﴿وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ[٦] وقوله تعالى: ﴿وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ[٧].

الثالث أنّه اختلاط مع الكافرين، وهو غير جائز؛ لقول اللّه تعالى: ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ۚ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا[٨] وقوله تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ۚ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ[٩] وقوله تعالى: ﴿وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ[١٠] وقوله تعالى حكاية عن نوح عليه السلام: ﴿يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ[١١] وقوله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام: ﴿فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ[١٢] وقوله تعالى حكاية عن المؤمنين: ﴿وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ[١٣]، ولما روي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أنّه قال: «لَا تُسَاكِنُوا الْمُشْرِكِينَ، وَلَا تُجَامِعُوهُمْ، فَمَنْ سَاكَنَهُمْ أَوْ جَامَعَهُمْ فَهُوَ مِثْلُهُمْ»[١٤] وفي رواية أخرى: «مَنْ جَامَعَ الْمُشْرِكَ وَسَكَنَ مَعَهُ فَإِنَّهُ مِثْلُهُ»[١٥]، وقال: «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْ مُشْرِكٍ بَعْدَمَا أَسْلَمَ عَمَلًا حَتَّى يُفَارِقَ الْمُشْرِكِينَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ»[١٦]، وقال: «مَنْ أَقَامَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ فِي دِيَارِهِمْ فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ الذِّمَّةُ»[١٧]، وقال: «أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلِمَ؟ قَالَ: لَا تَرَاءَى نَارَاهُمَا[١٨]»[١٩]، وروى جرير بن عبد اللّه البجليّ قال: «أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُبَايِعُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ابْسُطْ يَدَكَ حَتَّى أُبَايِعَكَ، وَاشْتَرِطْ عَلَيَّ، فَأَنْتَ أَعْلَمُ، فَقَالَ: أُبَايِعُكَ عَلَى أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتُنَاصِحَ الْمُسْلِمِينَ، وَتُفَارِقَ الْمُشْرِكِينَ»[٢٠].

الرابع أنّه تكثير سواد الكافرين، وهو تقويتهم وإعانتهم على المسلمين، وقد قال اللّه تعالى: ﴿وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ[٢١]، وروى عكرمة قال: «أَخْبَرَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ: أَنَّ أُنَاسًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا مَعَ الْمُشْرِكِينَ، يُكَثِّرُونَ سَوَادَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، فَيَأْتِي السَّهْمُ فَيُرْمَى فَيُصِيبُ أَحَدَهُمْ فَيَقْتُلُهُ، أَوْ يَضْرِبُهُ فَيَقْتُلُهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ[٢٢]»[٢٣] وروى ابن عبّاس وغيره: «كَانَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي لَيْثٍ اسْمُهُ جُنْدُبُ بْنُ ضَمْرَةَ اللَّيْثِيُّ، وَكَانَ ذَا مَالٍ، وَكَانَ لَهُ أَرْبَعَةُ بَنِينَ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَنْصُرُ نَبِيَّكَ بِنَفْسِي غَيْرَ أَنِّي أَعُوذُ عَنْ سَوَادِ الْمُشْرِكِينَ إِلَى دَارِ الْهِجْرَةِ، فَأَكُونُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، فَأُكَثِّرُ سَوَادَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، فَقَالَ لِبَنِيهِ: احْمِلُونِي إِلَى دَارِ الْهِجْرَةِ، فَأَكُونُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، فَحَمَلُوهُ، فَلَمَّا بَلَغَ التَّنْعِيمَ مَاتَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى نَبِيِّهِ: ﴿وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ[٢٤] الْآيَةَ»[٢٥].

الخامس أنّه ترك الهجرة، وهو غير جائز؛ لقول اللّه تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا[٢٦] وقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ ۖ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ۚ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ۚ فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا[٢٧]، بل هو بمنزلة التعرّب بعد الهجرة لمن ولد في بلد الإسلام ثمّ تركه واستوطن بلد الكفر، وذلك معدود من الكبائر؛ كما روي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم قال على المنبر: «اجْتَنِبُوا الْكَبَائِرَ السَّبْعَ، فَسَكَتَ النَّاسُ فَلَمْ يَتَكَلَّمْ أَحَدٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: أَلَا تَسْأَلُونِي عَنْهُنَّ؟ الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ، وَالْفِرَارُ مِنَ الزَّحْفِ، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَةِ، وَالتَّعَرُّبُ بَعْدَ الْهِجْرَةِ»[٢٨] وروي مثله عن أهل البيت[٢٩].

السادس أنّه تعرّض للفتنة والأذيّة في الدّين؛ لقول اللّه تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ[٣٠] وقوله تعالى: ﴿وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا[٣١] وقوله تعالى: ﴿مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ[٣٢] وقوله تعالى: ﴿إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا[٣٣] وقوله تعالى حكاية عن المؤمنين: ﴿رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا[٣٤].

السابع أنّه تعرّض لعذاب اللّه الذي يتوقّع نزوله على الكافرين في كلّ يوم؛ لقول اللّه تعالى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ[٣٥] وقوله تعالى: ﴿وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ[٣٦] وقوله تعالى: ﴿أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ[٣٧] وقوله تعالى: ﴿هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ ۚ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ ۖ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ ۚ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا[٣٨].

بناء على هذا، فلا ينبغي الشكّ في عدم جواز التوطّن في بلاد الكافرين، إلا لمن كان مضطرًّا أو محسنًا، والمضطرّ من ولد فيها من المسلمين أو أسلم فيها من الكافرين ثمّ تعذّر عليه تركها، ويدلّ على هذا قول اللّه تعالى: ﴿إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا ۝ فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا[٣٩]، أو من خاف على نفسه في بلاد المسلمين وهو مظلوم ولم يجد مأمنًا إلا في بلاد الكافرين، ويدلّ على هذا قول اللّه تعالى: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ[٤٠] وقوله تعالى: ﴿وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ[٤١] وقوله تعالى: ﴿إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ[٤٢] وقوله تعالى: ﴿لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ۖ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ۗ وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ۗ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ[٤٣]، والمحسن من توطّن في بلاد الكافرين لا لشيء إلا لدعوتهم إلى الإسلام، إذا تعذّر عليه القيام بها مسافرًا دون توطّن، ويدلّ على هذا قول اللّه تعالى: ﴿مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ[٤٤] وقوله تعالى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ۚ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ[٤٥] وقوله تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ ۚ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ[٤٦]، وروي عن حمّاد السمندريّ، قال: «قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ -يَعْنِي جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ الصَّادِقَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنِّي أَدْخُلُ بِلَادَ الشِّرْكِ، وَإِنَّ مَنْ عِنْدَنَا يَقُولُونَ: إِنْ مُتَّ ثَمَّ حُشِرْتَ مَعَهُمْ، فَقَالَ: يَا حَمَّادُ، إِذَا كُنْتَ ثَمَّ تَذْكُرُ أَمْرَنَا وَتَدْعُو إِلَيْهِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَإِذَا كُنْتَ فِي هَذِهِ الْمُدُنِ -مُدُنِ الْإِسْلَامِ- تَذْكُرُ أَمْرَنَا وَتَدْعُو إِلَيْهِ؟ قُلْتُ: لَا، فَقَالَ لِي: إِنَّكَ إِنْ مُتَّ ثَمَّ حُشِرْتَ أُمَّةً وَحْدَكَ، وَسَعَى نُورُكَ بَيْنَ يَدَيْكَ»[٤٧].

هذا، وقد أفرط بعض أهل الظاهر فقال: «مَنْ لَحِقَ بِأَرْضِ الشِّرْكِ بِغَيْرِ ضَرُورَةٍ فَهُوَ مُحَارِبٌ، هَذَا أَقَلُّ أَحْوَالِهِ إِنْ سَلِمَ مِنَ الرِّدَّةِ بِنَفْسِ فِرَاقِهِ جَمَاعَةَ الْإِسْلَامِ، وَانْحِيَازِهِ إِلَى أَرْضِ الشِّرْكِ»[٤٨] وصرّح في موضع آخر بأنّه مرتدّ وجب قتله إذا لم يكن مضطرًّا مكرهًا[٤٩]، وهو قول ضعيف حسب قاعدة العلامة المنصور الهاشمي الخراسانيّ حفظه اللّه تعالى. نعم، روي عن أهل البيت أنّ المحارب الذي نُفي من أرضه إن أراد الدخول في أرض الشرك قُتل، وفي رواية أخرى: «إِنْ تَوَجَّهَ إِلَى أَرْضِ الشِّرْكِ لِيَدْخُلَهَا قُوتِلَ أَهْلُهَا»[٥٠]، ولكنّ ذلك لضرورة منع فسّاق المسلمين من اتّخاذ بلاد الكافرين ملاذًا، وليس لأنّهم مرتدّون.

↑[١] . النّساء/ ١٤٤
↑[٢] . النّساء/ ١٣٩
↑[٣] . المائدة/ ٨٠
↑[٤] . النّساء/ ١٤١
↑[٥] . مسند خليفة بن خياط، ص٤١؛ صحيح البخاري، ج٢، ص٩٣؛ تاريخ واسط لبحشل، ج١، ص١٥٥؛ مسند الروياني، ج٢، ص٣٧؛ من لا يحضره الفقيه لابن بابويه، ج٤، ص٣٣٤؛ سنن الدارقطني، ج٤، ص٣٧١؛ أخبار أصبهان لأبي نعيم الأصبهاني، ج١، ص٩٢؛ السنن الكبرى للبيهقي، ج٦، ص٣٣٨
↑[٦] . هود/ ١١٣
↑[٧] . البقرة/ ٢٥٤
↑[٨] . النّساء/ ١٤٠
↑[٩] . الأنعام/ ٦٨
↑[١٠] . الأنعام/ ١٠٦
↑[١١] . هود/ ٤٢
↑[١٢] . المائدة/ ٢٥
↑[١٣] . يونس/ ٨٦
↑[١٤] . سنن الترمذي، ج٤، ص١٥٦؛ مسند البزار، ج١٠، ص٤٢٠؛ تاريخ واسط لبحشل، ج١، ص١٧١؛ المعجم الكبير للطبراني، ج٧، ص٢١٧؛ المستدرك على الصحيحين للحاكم، ج٢، ص١٥٤؛ أخبار أصبهان لأبي نعيم الأصبهاني، ج١، ص١٥٨؛ السنن الكبرى للبيهقي، ج٩، ص٢٤٠
↑[١٥] . سنن أبي داود، ج٣، ص٩٣؛ المعجم الكبير للطبراني، ج٧، ص٢٥١؛ شرح السنة للبغوي، ج١٠، ص٣٧٤
↑[١٦] . مسند أحمد، ج٣٣، ص٢٣٧؛ سنن ابن ماجه، ج٢، ص٨٤٨؛ سنن النسائي، ج٥، ص٨٢؛ مسند الروياني، ج٢، ص١١١؛ شرح مشكل الآثار للطحاوي، ج١٠، ص٣٥٥؛ المستدرك على الصحيحين للحاكم، ج٤، ص٦٤٣؛ أمالي ابن بشران (الجزء الأول)، ص٢٧٢
↑[١٧] . الآحاد والمثاني لابن أبي عاصم، ج٤، ص٤٧١؛ منتقى حديث أبي عبد اللّه محمد بن مخلد، ص١٥٥؛ المعجم الكبير للطبراني، ج٢، ص٣٣؛ الفوائد المنتقاة عن الشيوخ العوالي للحربي، ص١١٥؛ السنن الكبرى للبيهقي، ج٩، ص٢٢
↑[١٨] . قال الطحاوي في شرح مشكل الآثار (ج٨، ص٢٧٤): «إِنَّ أَهْلَ الْعَرَبِيَّةِ جَمِيعًا يَقُولُونَ فِي هَذَا الْحَرْفِ: لَا تَرَاءَى نَارَاهُمَا، وَيَقُولُونَ فِي ذَلِكَ قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَسْكُنَ بِلَادَ الْمُشْرِكِينَ فَيَكُونُ مَعَهُمْ بِقَدْرِ مَا يَرَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نَارَ صَاحِبِهِ، وَكَانَ الْكِسَائِيُّ يَقُولُ: الْعَرَبُ تَقُولُ: دَارِي تَنْظُرُ إِلَى دَارِ فُلَانٍ، وَدُورُنَا تُنَاظِرُ، وَالْآخَرُ مِنْهُمَا: أَنَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: <لَا تَرَاءَى نَارَاهُمَا> يُرِيدُ نَارَ الْحَرْبِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ: ﴿كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ (المائدة/ ٦٤) فَنَارُهُمَا مُخْتَلِفَتَانِ، هَذِهِ تَدْعُو إِلَى اللَّهِ، وَهَذِهِ تَدْعُو إِلَى الشَّيْطَانِ، فَكَيْفَ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ أَهْلُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا سَاكِنًا مَعَ أَهْلِ الْأُخْرَى فِي بَلَدٍ وَاحِدٍ».
↑[١٩] . مسند الشافعي، ص٢٠٢؛ سنن سعيد بن منصور، ج٢، ص٢٩٢؛ مصنف ابن أبي شيبة، ج٦، ص٤٦٨؛ سنن أبي داود، ج٣، ص٤٥؛ سنن الترمذي، ج٤، ص١٥٥؛ سنن النسائي، ج٨، ص٣٦؛ مجموع فيه مصنفات أبي جعفر ابن البختري، ج١، ص٢٤٢؛ السنن الكبرى للبيهقي، ج٨، ص٢٢٥
↑[٢٠] . سنن النسائي، ج٧، ص١٤٨؛ شرح معاني الآثار للطحاوي، ج٣، ص٢١٦
↑[٢١] . المائدة/ ٢
↑[٢٢] . النّساء/ ٩٧
↑[٢٣] . صحيح البخاري، ج٦، ص٤٨؛ السنن الكبرى للنسائي، ج١٠، ص٧١؛ شرح مشكل الآثار للطحاوي، ج٨، ص٤٤٨؛ المعجم الكبير للطبراني، ج١١، ص٢٠٥؛ السنن الكبرى للبيهقي، ج٩، ص٢٢
↑[٢٤] . النّساء/ ١٠٠
↑[٢٥] . معرفة الصحابة لأبي نعيم الأصبهاني، ج٢، ص٥٨٦
↑[٢٦] . الأنفال/ ٧٢
↑[٢٧] . النّساء/ ٩٧
↑[٢٨] . الجهاد لابن أبي عاصم، ج٢، ص٦٤٧؛ المعجم الكبير للطبراني، ج٦، ص١٠٣؛ الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي، ص١٠٣
↑[٢٩] . العلل ومعرفة الرجال لأحمد، ج٣، ص٣١٣؛ الكافي للكليني، ج٢، ص٢٧٧؛ الخصال لابن بابويه، ص٢٧٣
↑[٣٠] . آل عمران/ ١٤٩
↑[٣١] . آل عمران/ ١٨٦
↑[٣٢] . البقرة/ ١٠٥
↑[٣٣] . النّساء/ ١٠١
↑[٣٤] . الممتحنة/ ٥
↑[٣٥] . آل عمران/ ٥٦
↑[٣٦] . الرّعد/ ٣١
↑[٣٧] . يوسف/ ١٠٧
↑[٣٨] . الفتح/ ٢٥
↑[٣٩] . النّساء/ ٩٨-٩٩
↑[٤٠] . البقرة/ ١٧٣
↑[٤١] . الأنعام/ ١١٩
↑[٤٢] . النّحل/ ١٠٦
↑[٤٣] . آل عمران/ ٢٨
↑[٤٤] . التّوبة/ ٩١
↑[٤٥] . آل عمران/ ١٠٤
↑[٤٦] . آل عمران/ ١١٠
↑[٤٧] . رجال الكشي، ج٢، ص٦٣٤؛ الأمالي للطوسي، ص٤٦؛ بشارة المصطفى لابن أبي القاسم الطبري، ص١١٦
↑[٤٨] . المحلى بالآثار لابن حزم، ج١٢، ص٢٩
↑[٤٩] . المحلى بالآثار لابن حزم، ج١٢، ص١٢٥
↑[٥٠] . لهذه الروايات، انظر: تفسير العيّاشي، ج١، ص٣١٧؛ الكافي للكليني، ج٧، ص٢٤٧؛ تهذيب الأحكام للطوسي، ج١٠، ص١٣٣.
رقم التعليق: ١ كاتب التعليق: زهراء تاريخ التعليق: ١٤٤٤/٩/١١

هل يجوز للمسلم الرجوع إلى محاكم الكفّار؟ هناك مسلم كان مقيمًا ببلاد الغرب سابقًا، وقد أقاموا عليه هناك قضيّة، فتركها وعاد إلى بلاد المسلمين، وقد آن وقت المحاكمة. فهل يجوز له الرجوع إليهم ليحاكموه؟ علمًا بأنّه لو بقي في بلاد المسلمين ليس عليه أيّ حرج، وإن رجع إليهم سيسجن عددًا من السنين، وربّما يخسر عائلته أو عمله في بلاد المسلمين.

الاجابة على التعليق: ١ تاريخ الاجابة على التعليق: ١٤٤٤/٩/٢٠

لمثل هذا قد نُهي المسلمون عن الإقامة ببلاد الكفر، ومن أقام بها منهم فقد ظلم نفسه، إلّا أن يكون مضطرًّا أو محسنًا في إقامته، وقد بيّنّا ذلك في الجواب أعلاه، وكيفما كان فقد قال اللّه تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا[١]، فلا يجوز للمسلم المقيم ببلاد الكفر أن يتحاكم إلى الطاغوت ابتدائًا وإن كان مظلومًا، ولا يجوز له أن يظلم كافرًا أو فاسقًا ليحاكمه إلى الطاغوت؛ لا سيّما بالنظر إلى قول اللّه تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ[٢]، فإن ظلمه فعليه أداء حقّه قبل المحاكمة، وليس عليه جناح أن يحاكمه إذا لم يكن ظالمًا، فإن حاكمه وأحضره الطاغوت فلا جناح عليه أن يحضر ويدفع عن نفسه التهمة، ويُستحبّ له المصالحة قبل المحاكمة، وإن خاف قتلًا أو عذابًا لا يستحقّه في دين اللّه فله الهرب؛ كما هرب موسى عليه السلام، إذ جاءه رجل من أقصى المدينة يسعى، قال: ﴿يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ[٣]، وعليه في كلّ حال أداء حقوق الناس، ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ[٤]، وأمّا المسلم الذي ترك بلاد الكفر فليس له أن يرجع إلى الكفّار اختيارًا ليحكموا عليه؛ فإنّهم يحكمون بغير ما أنزل اللّه، ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا[٥]، وإن كان قد أضاع من أحدهم حقًّا فيبعث إليه بحقّه من دون أن يرجع إليهم، ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا[٦].

↑[١] . النّساء/ ٦٠
↑[٢] . المائدة/ ٨
↑[٣] . القصص/ ٢٠
↑[٤] . آل عمران/ ٥٧
↑[٥] . النّساء/ ١٤١
↑[٦] . الطّلاق/ ٢