كاتب السؤال: أبو هادي المالكي تاريخ السؤال: ١٤٤١/٥/١٦

طيّب اللّه أوقاتكم الأساتذة الأفاضل. قال اللّه تعالى: «وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ ۖ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ» (البقرة/ ١٠٢). يتبيّن من التقسيم الذي تمّ في الآية الكريمة حول موارد كفر الشياطين بأنّ هناك قسمين: الأول هو تعليم السحر والثاني هو تعليم ما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت ولا بدّ للقسمين أن يكونا متباينين وإلّا ما كانا قسمين لمقسم واحد ومن هذا يتّضح ظاهرًا بأنّ الذي أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت غير السحر. فما هو؟ ثمّ ما هو السحر؟ وما مداه؟ وفيمن تأثيره؟ وكيف يتمّ تشخيصه؟ وكيف يتمّ علاجه؟ وكيف يتأكّد من شفائه فيما لو كان غير مدرك؟ جزاكم اللّه خير الجزاء.

الاجابة على السؤال: ١٦ تاريخ الاجابة على السؤال: ١٤٤١/٥/٢٣

الظاهر من قوله تعالى: ﴿يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ[١] هو ذكر الخاصّ بعد العامّ معطوفًا عليه بالواو للتنبيه على أهمّيّته، حتى كأنه ليس من جنس العامّ تنزيلًا للتغاير في الوصف منزلة التغاير في الذات؛ كقوله تعالى: ﴿مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ[٢]؛ إذ لا شكّ أنّ جبريل وميكال من ملائكته وإنّما خصّهما بالذكر بعد التعميم للتنبيه على أهمّيّتهما والسحر تصرّف في الأشياء بسبب مخفيّ وهو على نوعين: نوع له حقيقة وهو التأثير بعون من الأرواح والعناصر والأعداد والحروف والخطوط وهذا الذي يسمّى بالطِّلَسم وقد يؤدّي إلى كلّ سوء ونوع ليست له حقيقة وهو التأثير في القوى المتخيّلة بالتلبيس والتزيين وهذا الذي يسمّى بالشعوذة أو الشعبذة؛ كما صدر عن سحرة فرعون إذ قال اللّه تعالى: ﴿فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى[٣] وذكر ابن خلدون في تاريخه[٤] نوعًا ثالثًا وهو التأثير بالهمّة فقطّ من غير آلة ولا معين والحقّ أنّه ليس بسحر، بل هو معجزة إن صدر عمّن يدّعي الممكن عقلًا وشرعًا ومثاله ما صدر عن عيسى عليه السلام وفتنة إن صدر عمّن يدّعي المستحيل عقلًا أو شرعًا ومثاله ما يصدر عن الدجّال ولا يُعرف النوع الأوّل على وجه اليقين غالبًا لخفائه ويبطل بذكر اللّه كثيرًا وقراءة القرآن بعد محو الطّلسم وإفنائه؛ كما أخبرنا عدّة من أصحابنا، قالوا:

مَرِضَ الْمَنْصُورُ شَهْرَيْنِ وَلَمْ يَنْفَعْهُ دَوَاءٌ حَتَّى خِفْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ، فَقُلْنَا: لَوْ دَعَوْتَ اللَّهَ أَنْ يَشْفِيَكَ! قَالَ: إِنِّي أَرْجُو مِنْ صَبْرِي مَا أَرْجُو مِنْ دُعَائِي! فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ: إِنِّي دَعَوْتُ رَبِّي، وَإِنِّي نُبِّئْتُ أَنَّ عَدُوًّا لِي قَدْ سَحَرَنِي، فَافْحَصُوا عَنْ عُقْدَةٍ فِي الْبَيْتِ! فَفَحَصْنَا فَلَمْ نَجِدْ شَيْئًا، فَقُلْنَا لَهُ: لَيْسَتْ فِي الْبَيْتِ عُقْدَةٌ! قَالَ: إِنَّهَا فِيهِ، اللَّهُمَّ أَخْرِجْهَا لِي! فَبَعَثَ اللَّهُ هِرَّةً تَبْحَثُ تَحْتَ شَجَرَةٍ فِي الْبَيْتِ، فَأَخْرَجَتْ خَرِيطَةً مِنْ قُمَاشٍ! فَقَالَ الْمَنْصُورُ: اللَّهُ أَكْبَرُ! ثُمَّ جَاءَ إِلَيْهَا حَتَّى أَخَذَهَا، فَوَجَدَ فِيهَا وَرَقَةً مَعْقُودَةً فِيهَا طِلَسْمٌ مَكْتُوبٌ! فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ! آتُونِي بِمَاءٍ طَاهِرٍ، فَأَتَيْنَاهُ بِهِ، فَقَرَأَ عَلَيْهِ «فَاتِحَةَ الْكِتَابِ» وَ«قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ» وَنَفَخَ فِيهِ، ثُمَّ جَلَسَ فِي مُصَلَّاهُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ وَغَسَلَ الْوَرَقَةَ فِي الْمَاءِ حَتَّى مَحَى الْكَلِمَاتِ وَالْخُطُوطَ بِيَدِهِ وَهُوَ يَقُولُ: ﴿مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ ۖ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ[٥]، وَيَقُولُ: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ ۗ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ۗ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ۝ ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ۝ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا ۚ إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ[٦]، فَلَمَّا فَرِغَ مِنْ ذَلِكَ أَخَذَ الْوَرَقَةَ بِخَرِيطَتِهَا وَخُيُوطِهَا، فَأَخْرَجَهَا مِنَ الْبَيْتِ فَأَحْرَقَهَا وَهُوَ يَقُولُ: ﴿وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا ۖ إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ ۖ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى[٧]، ثُمَّ دَخَلَ الْبَيْتَ فَغَسَلَ يَدَيْهِ وَجَدَّدَ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ سَجَدَ وَدَعَا وَهُوَ سَاجِدٌ، ثُمَّ قَامَ وَذَهَبَ إِلَى زَاوِيَةٍ فَنَامَ، فَلَمْ يَسْتَيْقِظْ إِلَّا نَشِيطًا طَيِّبَ النَّفْسِ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ مَرِيضًا مِنْ قَبْلُ، فَقَالَ: شَفَانِي رَبِّي وَأَذْهَبَ عَنِّي رِجْزَ الشَّيْطَانِ، إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ، فَقُلْنَا: جُعِلْنَا فِدَاكَ، وَهَلْ عَرَفْتَ السَّاحِرَ؟ فَقَالَ بِرَأْسِهِ: نَعَمْ، ثُمَّ قَالَ: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَخْرُجَ ثَلَاثُونَ دَجَّالًا كُلُّهُمْ يَكْذِبُ عَلَى اللَّهِ وَعَلَى رَسُولِهِ.

↑[١] . البقرة/ ١٠٢
↑[٢] . البقرة/ ٩٨
↑[٣] . طه/ ٦٦
↑[٤] . تاريخ ابن خلدون، ج١، ص٤٩٧
↑[٥] . يونس/ ٨١
↑[٦] . الأعراف/ ٥٤-٥٦
↑[٧] . طه/ ٦٩