كاتب السؤال: رضا الراضي تاريخ السؤال: ١٤٣٧/٣/١٤

متى يجوز الكذب؟

الاجابة على السؤال: ١ تاريخ الاجابة على السؤال: ١٤٣٧/٣/٢٣

«الكذب» يطلق على كلّ خبر لا ينطبق على الواقع، ولذلك فإنّ «قول الكذب» هو الإخبار بمثل هذا الخبر، سواء كان المخبر عالمًا بمخالفته للواقع، أو كان يحسبه منطبقًا على الواقع بجهله المركّب، وقبحه فطريّ وبديهيّ في كلتا الحالتين؛ كما قال اللّه تعالى في الحالة الأولى: ﴿وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ[١]، وفي الحالة الثانية: ﴿مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ ۚ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ۚ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا[٢]، بل عطفه على عبادة الأوثان لفرط قبحه، فقال: ﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ[٣].

مع ذلك، فإنّ قول الكذب بمعنى الإخبار بخبر مخالف للواقع إنّما تكون له حرمة تكليفيّة إذا كان عن علم بأنّ الخبر مخالف للواقع؛ لأنّه إذا لم يكن عن علم بأنّ الخبر مخالف للواقع، فليس من الممكن اجتنابه على أنّه قول الكذب، ولذلك فإنّ النهي عنه بهذا العنوان يعتبر لغوًا، ولو أنّه من الممكن اجتناب مقدّماته المسبّبة للجهل المركّب، وبالتالي يصحّ النهي عنها تحت عنوان موانع المعرفة، ولذلك فإنّ «الكاذب» يطلق في الحقيقة على من يخبر بخبر يعلم أنّه مخالف للواقع جلبًا لنفع أو دفعًا لضرّ بزعمه، ولكن من يخبر بمثل هذا الخبر من دون علم بأنّه مخالف للواقع فلا يعتبر في الحقيقة كاذبًا، بل يعتبر في ضلال بعيد؛ لأنّه صادق في زعمه، ولو أنّه آثم ومستحقّ للعقوبة بسبب تقصيره في تحصيل مقدّمات العلم. من هنا يعلم أنّ الكذب لا يقوله الكاذبون فقطّ، بل يقوله الذين يريدون الصدق أيضًا، وربما يكون كذب هؤلاء أكبر وأخطر؛ مثل أكاذيب بعض الفقهاء والمحدّثين الذين قد حيّروا الأمّة بآرائهم الخاطئة وأخبارهم الباطلة، وأكاذيب بعض مقلّديهم الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنّهم يحسنون صنعًا.

بناء على هذا، فإنّ حرمة قول الكذب يعني من جانبٍ حرمة الإخبار بخبر مخالف للواقع مع العلم بمخالفته للواقع، ومن جانب آخر وجوب اجتناب الجهل والتقليد والأهواء النفسانيّة والنزعة الدنيويّة والتعصّب والتكبّر والنزعة الخرافيّة ممّا يؤدّي إلى الإخبار بمثل هذا الخبر من دون علم بمخالفته للواقع.

نعم، إنّ قول الكذب بمعنى الإخبار بمثل هذا الخبر مع العلم بمخالفته للواقع، وإن كان حرامًا في الحالة الأوّليّة، إلا أنّه قد يكون جائزًا في الحالة الثانويّة، وهي حالة تكون مصلحة قول الكذب فيها أكبر من مفسدته عند الشرع، وهي أربع حالات:

١ . التقيّة

٢ . الحرب

٣ . الصلح

٤ . النصيحة

وتفصيلها أنّ الإخبار بخبر منطبق على الواقع إذا كان مقتضيًا لقتل مسلم بغير حقّ أو فتنة أكبر من ذلك فإنّه غير جائز؛ كما قال اللّه تعالى: ﴿مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ[٤]، والإخبار بخبر منطبق على الواقع في وقت الحرب، إذا كان مقتضيًا لانتشار الخوف والرعب بين المسلمين أو الأمن والجرأة بين أعداء الإسلام فإنّه غير جائز؛ كما قال اللّه تعالى: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ۖ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ۗ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا[٥]، والإخبار بخبر منطبق على الواقع إذا كان مقتضيًا لحدوث أو استمرار نزاع بين شخصين أو طائفتين من المسلمين فإنّه غير جائز؛ كما قال اللّه تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ[٦]، وقال: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ[٧]، وقال: ﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ۚ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا[٨]، والإخبار بخبر مخالف للواقع إذا كان عن نصح ولأجل تنبيه الغافلين وهداية الضّالّين مثلًا فإنّه جائز؛ كما قال اللّه تعالى في يوسف عليه السلام: ﴿فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ[٩]، مع أنّهم لم يكونوا سارقين، وإنّما قال ذلك يوسف عليه السلام عن نصح ولأجل تنبيههم، وقال اللّه تعالى في إبراهيم عليه السلام: ﴿قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ[١٠]، مع أنّ كبير الأصنام لم يجعلهم جُذاذًا، وإنّما قال ذلك إبراهيم عليه السلام عن نصح ولأجل هداية الضّالّين.

من هنا يعلم أنّ الإخبار بخبر مخالف للواقع جائز في هذه الحالات الأربعة، ولكن بشرط أن لا يكون من الممكن صمت ولا تورية؛ لأنّه لا داعي لذلك إذا كان الصمت أو التورية مغنيًا عن ذلك؛ كما يجب أن لا يصبح جواز ذلك في هذه الحالات الأربعة ذريعة للحكّام الظالمين وأذنابهم إلى أن يقولوا للناس كلّ كذب ويكتموا عنهم كلّ واقع بدوافع مثل الحفاظ على النظام؛ لأنّ الغرض من الحكم المذكور هو تخفيف عن المحسنين في الدفاع عن حقوق المظلومين وجلب مصالح المستضعفين وهداية الضّالّين إلى الحقّ المبين؛ بالنظر إلى أنّه يرجع إلى قول اللّه تعالى: ﴿مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ[١١]، وليس تخفيفًا عن الجبابرة في الحفاظ على حكومتهم وتضييع حقوق المظلومين وإضلال الناس؛ كما أخبرنا بعض أصحابنا، قال:

سَمِعْتُ الْمَنْصُورَ يَقُولُ: لَيْسَ لِلظَّالِمِ قَصْرُ صَلَاةٍ، وَلَا إِفْطَارُ صَوْمٍ، وَلَا اضْطِرَارٌ فِي مَخْمَصَةٍ، وَلَا كِذْبٌ فِي مَصْلَحَةٍ، وَلَا تَقَيِّةٌ فِي خِيفَةٍ.

لأنّ هذه الأحكام كلّها مشروعة برحمة اللّه، والظالمون غير مستحقّين لرحمة اللّه؛ كما قال تعالى: ﴿أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ[١٢]، ولعنته هي الطرد من رحمته.

↑[١] . آل عمران/ ٧٥
↑[٢] . الكهف/ ٥
↑[٣] . الحجّ/ ٣٠
↑[٤] . النّحل/ ١٠٦
↑[٥] . النّساء/ ٨٣
↑[٦] . الأنفال/ ١
↑[٧] . الحجرات/ ١٠
↑[٨] . النّساء/ ١١٤
↑[٩] . يوسف/ ٧٠
↑[١٠] . الأنبياء/ ٦٣
↑[١١] . التّوبة/ ٩١
↑[١٢] . هود/ ١٨