أخبرنا بعض أصحابنا، قال: رأيت المنصور الهاشميّ الخراسانيّ متّكئًا على شجرة توت، يعظ النّاس فيقول:

يَا عِبَادَ اللَّهِ الَّذِينَ أَكَبُّوا عَلَى جَمْعِ الْأَمْوَالِ، وَتَنَافَسُوا فِي كَسْبِ السُّلْطَةِ! اعْلَمُوا أَنَّ حَيَاتَكُمْ غَيْرُ مُسْتَقِرَّةٍ، وَأَنَّ مَوْتَكُمْ قَرِيبٌ. الْقُبُورُ مَحْفُورَةٌ، وَالْأَكْفَانُ مَقْطُوعَةٌ. قَرِيبًا سَتُدْبِرُ عَنْكُمْ وَتَتْرُكُكُمُ الدُّنْيَا الَّتِي مِنْ أَجْلِهَا عَنِتُّمْ، وَظَلَمْتُمْ، وَكَذَبْتُمْ، وَانْتَهَكْتُمُ الْأَعْرَاضَ. فَلَنْ تَأْسِفَ لِسُكُونِكُمْ بَعْدَ حَرَكَتِكُمْ، وَلَنْ تَأْسَى عَلَى بُرُودِكُمْ بَعْدَ حَرَارَتِكُمْ، وَلَنْ تَحْزَنَ عَلَى أَطْفَالِكُمْ إِذَا تَيَتَّمُوا، وَلَنْ تَتَحَسَّرَ عَلَى أَزْوَاجِكُمْ إِذَا تَرَمَّلْنَ؛ لِأَنَّهَا لَمْ يُودَعْ فِي جِبِلَّتِهَا رَحْمَةٌ، وَلَا يُوجَدُ فِي طَبِيعَتِهَا شَفَقَةٌ. قَدْ دَاسَتْ بِقَدِمِهَا حَنَاجِرَ الْأَطْفَالِ الرُّضَّعِ، وَأَهَالَتِ التُّرَابَ عَلَى رُؤُوسِ الْعِرْسَانِ الْخَائِبَةِ، وَلَمْ تُعَافِ الشُّبَّانَ الطَّامِحِينَ وَلَا الشُّيُوخَ الْعَائِلِينَ. فَكَمْ مِنْ مَظْلُومٍ لَمْ تَسْمَعِ اسْتِغَاثَتَهُ، وَكَمْ مِنْ عَاثِرٍ لَمْ تَمْسِكْ بِيَدِهِ. آهٍ مِنْ صَرَخَاتٍ ارْتَفَعَتْ بِسَبَبِهَا إِلَى السَّمَاءِ، وَدُمُوعٍ سَقَطَتْ بِسَبَبِهَا عَلَى الْأَرْضِ! أَنْتُمْ وَرَثَةُ السَّابِقِينَ، وَسَيَكُونُ اللَّاحِقُونَ وَرَثَتَكُمْ. لَقَدْ سَكَنْتُمْ مَسَاكِنَ الَّذِينَ أَصْبَحُوا سُكَّانَ الْقُبُورِ، وَنِلْتُمْ مَنَاصِبَ الَّذِينَ تَعَرَّتْ عِظَامُهُمْ مِنَ اللَّحْمِ. كَمْ مِنْ وُجُوهٍ جَمِيلَةٍ انْتَفَخَتْ وَانْفَجَرَتْ، وَكَمْ مِنْ أَبْدَانٍ قَوِيَّةٍ بَلِيَتْ وَتَفَسَّخَتْ! فَبِأَيِّ شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الدُّنْيَا تَعَلَّقْتُمْ، وَمَاذَا تَأْمَلُونَ مِنْهَا؟! فِي حِينٍ أَنَّ مَا جَمَعْتُمُوهُ سَيَتَبَعْثَرُ، وَمَا شَيَّدْتُمُوهُ سَيَنْهَارُ، وَهَذِهِ أَجْسَادُكُمْ سَمَّنْتُمُوهَا لِلدِّيدَانِ، وَهَذِهِ أَمْوَالُكُمْ أَنْفَقْتُمُوهَا لِلْأَرْضَةِ. حَيَاتُكُمْ مُعَلَّقَةٌ عَلَى جُرْعَةٍ، وَأَنْفَاسُكُمْ مُعْتَمِدَةٌ عَلَى لُقْمَةٍ. أَعْضَاؤُكُمْ ضَعِيفَةٌ وَآفَاتُ الدُّنْيَا كَمِينَةٌ. أَيْنَمَا ذَهَبْتُمْ، فَإِنَّ الْمَوْتَ آخِذٌ بِتَلَابِيبِكُمْ، وَلَا مَحِيصَ لَكُمْ عَنْهُ. لَا فِي قِمَمِ الْجِبَالِ تَأْمَنُونَ مِنْهُ، وَلَا فِي شُقُوقِ الْوُدْيَانِ تَخْتَفُونَ عَنْهُ. الْآنَ بَعْدَ أَنْ أُتِيحَتْ لَكُمْ فُرْصَةٌ وَقُدْرَةٌ، فَتَزَوَّدُوا لِآخِرَتِكُمْ، وَاحْمِلُوا أَنْفُسَكُمْ عَلَى مَا يَنْفَعُكُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ.

في هذا الوقت، قال شابّ من النّاس: «أيّها المعلِّم! ما خير الزّاد للآخرة، وما أنفع الأعمال لنا؟» فنظر إليه جنابه وقال:

سَتَعَلَّمُ بِتَعْلِيمِي، وَتَرْشُدُ بِإِرْشَادِي؛ لِأَنَّ لِسَانِي يَنْطِقُ بِالْحِكْمَةِ، وَمِنْ بَاطِنِي يَتَفَجَّرُ الْعِلْمُ. خَيْرُ الزَّادِ لِلْآخِرَةِ التَّقْوَى، وَأَنْفَعُ الْأَعْمَالِ لَكُمْ نُصْرَةُ خَلِيفَةِ اللَّهِ؛ لِأَنَّ اجْتِنَابَ السَّيِّئَاتِ مُقَدَّمٌ عَلَى فِعْلِ الْحَسَنَاتِ، وَنُصْرَةَ خَلِيفَةِ اللَّهِ أَوْلَى مِنْ نُصْرَةِ الْآخَرِينَ. إِيَّاكُمْ أَنْ تَنْصُرُوا الظَّالِمِينَ لِتَسْفِكُوا دِمَاءَ الْمَظْلُومِينَ، وَإِيَّاكُمْ أَنْ تَقِفُوا إِلَى جَانِبِ الْأُمَرَاءِ لِتَخَلَّوْا عَنْ جَانِبِ الْمَهْدِيِّ! مَنْ أَشْقَى مِمَّنْ يَشْرِي آخِرَتَهُ بِدُنْيَا غَيْرِهِ، وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يُقَدِّمُ مَنِ اخْتَارَهُ عَلَى مَنِ اخْتَارَهُ اللَّهُ؟! سَوْفَ تَصِلُ الْحَسْرَةُ كَالدَّمِ إِلَى جَمِيعِ أَعْضَائِهِ، وَسَوْفَ يَتَغَشَّاهُ النَّدَمُ كَالْجِلْدِ مِنْ رَأْسِهِ إِلَى قَدَمِهِ، حِينَ يَنْقَضُّ عَلَيْهِ الْمَوْتُ كَعُقَابٍ، وَيَغْرِزُ مَخَالِبَهُ كَسَهْمٍ فِي رُوحِهِ، لِيَأْخُذَهُ مَعَهُ إِلَى عَالَمٍ مُرْعِبٍ وَمُنْهِكٍ لَا تُرْجَى رَجْعَةٌ مِنْهٌ.

ثمّ التفت إلى النّاس وقال بصوت عالٍ:

أَيُّهَا النَّاسُ! أَدْبِرُوا عَنِ الدُّنْيَا قَبْلَ أَنْ تُدْبِرَ عَنْكُمْ، وَأَقْبِلُوا عَلَى الْآخِرَةِ قَبْلَ أَنْ تُقْبِلَ عَلَيْكُمْ. احْمَلُوا أَنْفُسَكُمْ عَلَى التَّقْوَى، وَلَا تُعَوِّدُوهَا عَلَى الرَّاحَةِ. عَسِّرُوا عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا لِتَتَيَسَّرَ عَلَيْكُمُ الْآخِرَةُ؛ فَوَاللَّهِ سَتَنْتَهِي صُعُوبَةُ الدُّنْيَا، وَلَكِنَّ صُعُوبَةَ الْآخِرَةِ لَا انْتِهَاءَ لَهَا؛ كَمَا أَنَّ رَاحَةَ الدُّنْيَا لَا تَبْرَحُ كَثِيرًا وَرَاحَةَ الْآخِرَةِ أَبَدِيَّةٌ. اعْلَمُوا أَنَّ جَنَّةَ الْخُلْدِ لِمَنْ دَفَعَ ثَمَنَهَا، وَمَا أَرْبَحَ الَّذِينَ بَاعُوا الْفَانِي بِالْبَاقِي! طُوبَى لَهُمْ وَبَخٍّ! هَنِيئًا لَهُمْ رِضْوَانُ اللَّهِ وَثَوَابُهُ!

ثمّ قام ليذهبَ، فجاءه ذلك الشّابّ وقال: «أيّها المعلِّم! ائذن لي لآتيَ مع تلامذتك؛ لأنّه لم تبق لي رغبة في الدّنيا!»، فنظر إليه جنابه وقال:

الْآنَ بَعْدَ أَنْ زَهِدْتَ فِي الدُّنْيَا، فَتَعَالَ مَعِي لِأُرْشِدَكَ إِلَى الْآخِرَةِ؛ فَإِنِّي أَعْرِفُ طُرُقًا قَصِيرَةً وَسُنَنًا حَسَنَةً.

فرافق ذلك الشّابّ جنابه والتحق بتلامذته ليَتمّ تعليمه لنصرة المهديّ.