أَخْبَرَنَا أَبُو زَكَرِيَّا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الطَّالَقَانِيُّ، قَالَ: قُلْتُ لِلْمَنْصُورِ فِي أَوَّلِ دَخْلَةٍ دَخَلْتُ عَلَيْهِ: إِنِّي سَائِلُكَ عَنْ أَشْيَاءَ، فَإِنْ أَجَبْتَنِي عَنْهَا عَلِمْتُ أَنَّكَ مِمَّنْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ تُجِبْنِي عَلِمْتُ أَنَّكَ مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ! قَالَ: سَلْ! قُلْتُ: أَخْبِرْنِي عَنِ الْعَالَمِ أَهُوَ حَادِثٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: مَا كَانَ قَبْلَ حُدُوثِهِ؟ قَالَ: مَا كَانَ قَبْلَ حُدُوثِهِ قَبْلٌ، قُلْتُ: فَخَلَقَ الزَّمَانَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: مَتَى خَلَقَهُ؟ قَالَ: مَا كَانَ إِذَا خَلَقَهُ مَتَى، قُلْتُ: فَكَيْفَ خَلَقَهُ؟ قَالَ: خَلَقَهُ بِخَلْقِ الْحَرَكَةِ، قُلْتُ: فَالْحَرَكَةُ أَوَّلُ مَا خَلَقَ؟ قَالَ: لَا وَلَكِنْ أَوَّلُ مَا خَلَقَ الْعَقْلُ لِيُعْرَفَ بِهِ فَيُعْبَدَ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: أَقْبِلْ، فَأَقْبَلَ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: أَدْبِرْ، فَأَدْبَرَ، فَجَعَلَ لَهُ الْحَرَكَةَ، قُلْتُ: مِنْ أَيْنَ إِلَى أَيْنَ؟ قَالَ: مِنَ الْقُوَّةِ إِلَى الْفِعْلِ، ثُمَّ خَلَقَ مِنْهُ النَّفْسَ، فَجَعَلَهَا نُورًا، وَجَعَلَ النُّورَ دَرَجَاتٍ، يَزِيدُ فَيَكُونُ رُوحًا بِقَدَرِهِ، وَيَنْقُصُ فَيَكُونُ جِسْمًا بِقَدَرِهِ، فَيُنْتَزَعُ مِنْهُ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْجِمَادِ وَالنَّبَاتِ وَالْحَيْوَانِ وَالْمَلَكِ، وَكُلٌّ لَهُ نُورٌ وَمِقْدَارٌ! قُلْتُ: أَشْهَدُ أَنَّكَ مِمَّنْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنَ الصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا! وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ أَعْلَمَ مِنْكَ! قَالَ: صَدَقْتَ، وَلَكِنْ لَوْ بَقِيتَ مَعِيَ سَأُرِيكَ رَجُلًا هُوَ أَعْلَمُ مِنِّي، يُقَالُ لَهُ الْمَهْدِيُّ!

شرح القول:

هذه الحكمة الخالصة هي جوهرة نادرة مليئة بنكات بديعة ومعارف رائعة، وتحتوي على علم خاصّ لا يمكن العثور عليه إلّا عند أولياء اللّه من آل محمّد صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، ولذلك أقنعت السائل الفاطن أنّ المنصور الهاشمي الخراساني ليس مدّعيًا جاهلًا كذّابًا، بل هو عالم صدّيق من الذين أنعم اللّه عليهم، وهو يهدي إلى الرّشد ويفصح عن حقيقة الإسلام ويمهّد لظهور المهديّ.

على الرغم من أنّه يمكن أن يقال الكثير في شرح هذه الحكمة الخالصة، بل يمكن كتابة كتاب، ولكن ليس هناك مجال للتفصيل، ولذلك نكتفي بالإيجاز، فنقول: أولًا حسب قول جنابه، الزمان جزء من العالم الحادث، وقد تمّ خلقه تبعًا لذلك، وبالتالي لم يكن موجودًا قبل خلق العالم، وقد تكوّن في اللازمان، ومن ثمّ فإنّ السؤال عن أنّه ماذا كان قبله أو في أيّ زمان تمّ خلقه، ليس له معنى؛ ثانيًا أوّل ما صدر من اللّه هو العقل، ليكون أساس معرفته وعبادته؛ ثالثًا بأمرٍ تكوينيّ من اللّه، قد وُضعت في طبيعة العقل حركة جوهريّة بين القوّة والفعل، وهذه الحركة الجوهريّة هي التي تظهر الزمان؛ رابعًا النفس خُلقت من العقل، ولذلك فهي مدركة؛ خامسًا النفس جُعلت نورًا، وهو ما لديه طبيعة نافذة وسارية، تنتشر عبر الزمان في المكان كلّه، ولذلك كان خلق العقل انفجارًا للنور، وهذا النور لم يزل يتحرّك ويتقدّم، وكلّ ما هو موجود فهو نفس في حقيقته؛ سادسًا هذا النور العقليّ الذي هو النفس، أصبح ذا قوّة وضعف بجعل تكوينيّ من اللّه، ولذلك ظهرت النفس الأقوى والنفس الأضعف؛ سابعًا هذا النور العقليّ والنفسيّ هو الرّوحيّة، ولذلك كلّما ازداد قوّة أصبح روحًا حتّى انتهى إلى الروح المجرّدة، وكلّما ازداد ضعفًا أصبح جسمًا حتّى انتهى إلى الجسم المجرّد، والأشياء التي بينهما لها جسميّة وروحيّة بما يتناسب مع قوّته وضعفه، ولذلك فإنّ الروح والجسم كلاهما من جوهر نورانيّ واحد، لدرجة أنّه يمكن القول أنّ الروح هي جسم قويّ، والجسم هو روح ضعيفة؛ بمعنى أنّ هذا الجوهر النورانيّ هو أقوى في الروح وأضعف في الجسم؛ ثامنًا السماوات والأرض وما بينهما من الجمادات والنباتات والحيوانات والملائكة، قد تمّ خلقهنّ على أساس هذا النظام الموحّد، وانتزاعهنّ من هذا النور العقليّ والنفسيّ؛ بحيث أنّ كلًّا منهنّ قد حازت جسميّة وروحيّة بقدر نصيبها من هذا النور ذي المراتب وبالطبع، فإنّ ماهيّتها منتزعة من مقدار نورانيّتها، وهي وجودها؛ لأنّ الوجود واحد في الجنس ومختلف في المرتبة، والماهيّات مراتب الوجود، وعليه فإنّ كلًّا منهنّ قد حازت ماهيّة بقدر وجودها؛ لأنّ كلًّا منهنّ له وجود ومقدار؛ كما قال اللّه تعالى: ﴿وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ[١].

ممّا لا شكّ فيه أنّ مثل هذه المعارف الخالصة والحِكَم الفريدة، تعتبر كرامات قوليّة في عيون المتوسّمين، وهي أمثلة على البيّنات؛ لأنّها تحكي عن صدق قائلها واتّصال قلبه بالمحلّ الأعلى، ومن ثمّ يقول السائل الفاطن بعد سماعها: «أَشْهَدُ أَنَّكَ مِمَّنْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنَ الصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا! وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ أَعْلَمَ مِنْكَ»، ولكن من المدهش أنّ هذا الإنسان الذي لم يُر أعلم منه، عندما يجد السائل مندهشًا بعظمته العلميّة، يلفت انتباهه على الفور إلى العظمة العلميّة للمهديّ، ليظهر بهذه الطريقة ماهيّته الحقيقيّة كممهّد عمليّ لظهور المهديّ في جميع حركاته وسكناته، وعلى عكس الأدعياء الذين، مثل طبول فارغة وصاخبة، بالرغم من عدم وجود بضاعة علميّة لهم، يدعون الناس إلى أنفسهم ولا يتوقّفون عن قول «أنا! أنا!»، يدعو الناس إلى خليفة اللّه ولا يغفل ذكر «المهديّ»!

هذا هو الفرق بين الحقّ والباطل الذي قد يخفى عن السفهاء الذين ﴿لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا[٢]، ولكن لن يخفي أبدًا عن أولي الألباب، وهم أنصار المنصور الذين يعرفون قدره ويأتونه ولو حبوًا على الثلج، ليتدرّبوا عنده لنصرة المهديّ ويمهّدوا لحكومته على العالم، ولا شكّ أنّ العاقبة هي لهم، لا للأدعياء ولا للسفهاء الذين هم ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ[٣].

↑[١] . الرّعد/ ٨
↑[٢] . الأعراف/ ١٧٩
↑[٣] . البقرة/ ١٧١