كاتب السؤال: داوود تاريخ السؤال: ١٤٣٦/١١/٢٩

يعتقد الشيعة أنّ النبيّ والأئمّة من أهل بيته كانوا يعلمون الغيب. هل هذا الإعتقاد صحيح؟ إذا علمتُ أنّ خليفة اللّه في الأرض يعلم الغيب، كيف يمكنني القيام بالعمل الصالح وترك العمل السيّء باختيار منّي؟ إذًا لا يبقى مجال للنموّ. شكرًا على التوضيح.

الاجابة على السؤال: ١ تاريخ الاجابة على السؤال: ١٤٣٦/١١/٣٠

المراد بـ«علم الغيب» علم ما لا يدرك بالحسّ والإستدلال؛ كعلم ما كان في الماضي ولم يخبر به أحد، وعلم ما يكون في المستقبل وليس له سبب معلوم في الوقت الحاضر، وهذا يستلزم أن لا يعلم الغيب إلّا اللّه؛ لأنّه الوحيد الذي يعلم الأشياء بغير حسّ واستدلال، وكلّ ما سواه، بمقتضى كونه مخلوقًا ذا حدود وجوارح، يعلم بالحسّ والإستدلال، وبالتالي لا يمكن أن يعلم شيئًا لا يحسّه ولا يجد دليلًا عليه؛ كما صرّح اللّه بذلك في كتابه فقال: ﴿إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ[١]، وقال: ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ[٢]، وقال: ﴿لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ[٣]. بناء على هذا، فإنّ البشر لا يمكنه علم الغيب، ولا فرق في ذلك بين النبيّ وغيره؛ لأنّ ذلك ما تقتضيه البشريّة، ولا فرق في البشريّة بين النبيّ وغيره؛ كما صرّح اللّه بذلك فقال: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ[٤]، وقال: ﴿قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ[٥]، وقال: ﴿قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ ۚ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ[٦]. لذلك يوجد أمثلة كثيرة على جهل الأنبياء بالغيب؛ مثل جهل آدم عليه السلام بنيّة إبليس عندما دعاه إلى الأكل من الشجرة الممنوعة، وجهل نوح عليه السلام بأنّ ابنه لن ينجو حتّى أدركه الغرق، وجهل إبراهيم ولوط عليهما السلام بالملائكة حتّى عرّفوهما أنفسهم، وجهل يعقوب عليه السلام بمكان يوسف عليه السلام وما جرى عليه حتّى جاءه البشير، وجهل موسى عليه السلام بأنّ الملأ يأتمرون به ليقتلوه حتّى جاءه رجل من أقصى المدينة يسعى، وجهل سليمان عليه السلام بمكان الهدهد وما كان يجري في أرض سبأ، حتّى جاءه الهدهد فأخبره بذلك، ومع هذا لم يستيقن به حتّى تبيّن، وجهل أيّوب عليه السلام بأنّ امرأته لم تأت بفاحشة حتّى حلف أن يضربها مائة جلدة، وجهل يونس عليه السلام بأنّ قومه سيتوبون من قريب حتّى ذهب مغاضبًا، وجهل النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ببعض المنافقين من أهل المدينة؛ كما أخبر اللّه عن ذلك فقال: ﴿لَا تَعْلَمُهُمْ ۖ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ[٧]. بناء على هذا، فإنّ الأئمّة من أهل البيت أيضًا ما كانوا يعلمون الغيب من باب أولى؛ لأنّهم أيضًا بشر مثل سائر الناس، ولا يفضلون على النبيّ في علم ولا عمل.

نعم، من الممكن أن يخبر اللّه نبيّه بما كان في الماضي ولم يخبر به غيره، وما يكون في المستقبل وليس له سبب معلوم في الوقت الحاضر؛ كما قال: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ[٨]، وقال: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا ۝ إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا[٩]، لكنّ ذلك لا يعتبر علم النبيّ بالغيب؛ لأنّ اللّه هو الذي أخبره به؛ كما إذا أخبر النبيّ أصحابه وأهل بيته بذلك لا يعتبر علمهم بالغيب؛ لأنّ النبيّ هو الذي أخبرهم به، وقد تبيّن أنّ «عالم الغيب» لا يطلق على من أخبره أحد بما كان أو يكون بالغيب، ولذلك لم يدّع أحد من الصحابة ولا أهل البيت أنّه يعلم الغيب، بل نفوه عن أنفسهم بصراحة؛ كما جاء في «نهج البلاغة»، وهو من أصحّ كتب الشيعة، أنّ عليًّا عليه السلام أخبر الناس بما يكون في المستقبل من فتنة الأتراك، «فَقَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: لَقَدْ أُعْطِيتَ، يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، عِلْمَ الْغَيْبِ؟! فَضَحِكَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَالَ لِلرَّجُلِ، وَكَانَ كَلْبِيًّا: يَا أَخَا كَلْبٍ، لَيْسَ هُوَ بِعِلْمِ غَيْبٍ، وَإِنَّمَا هُوَ تَعَلُّمٌ مِنْ ذِي عِلْمٍ»[١٠]، يعني النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، وروى الكشّي (ت٣٥٠هـ) في رجاله بسند صحيح عن عبد اللّه بن المغيرة، قال: «كُنْتُ عِنْدَ أَبِي الْحَسَنِ -يَعْنِي مُوسَى بْنَ جَعْفَرٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَا وَيَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَالَ يَحْيَى: جُعِلْتُ فِدَاكَ، إِنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّكَ تَعْلَمُ الْغَيْبَ! فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ! سُبْحَانَ اللَّهِ! ضَعْ يَدَكَ عَلَى رَأْسِي، فَوَاللَّهِ مَا بَقِيَتْ فِي جَسَدِي شَعْرَةٌ وَلَا فِي رَأْسِي إِلَّا قَامَتْ! ثُمَّ قَالَ: لَا وَاللَّهِ، مَا هِيَ إِلَّا وِرَاثَةٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ»[١١]، وروى أيضًا بسند صحيح عن أبي بصير، قال: «قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ -يَعْنِي جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ الصَّادِقَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنَّهُمْ يَقُولُونَ! قَالَ: وَمَا يَقُولُونَ؟ قُلْتُ: يَقُولُونَ تَعْلَمُ قَطْرَ الْمَطَرِ وَعَدَدَ النُّجُومِ وَوَرَقَ الشَّجَرِ وَوَزْنَ مَا فِي الْبَحْرِ وَعَدَدَ التُّرَابِ! فَرَفَعَ يَدَهُ إِلَى السَّمَاءِ وَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ! سُبْحَانَ اللَّهِ! لَا وَاللَّهِ، مَا يَعْلَمُ هَذَا إِلَّا اللَّهُ»[١٢]، وروى الكلينيّ (ت٣٢٨ه‍) في «الكافي»[١٣]، وهو أهمّ كتاب عند الشيعة، بسنده عن سدير الصيرفيّ، قال: «كُنْتُ أَنَا وَأَبُو بَصِيرٍ وَيَحْيَى الْبَزَّازُ وَدَاوُدُ بْنُ كَثِيرٍ فِي مَجْلِسِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذْ خَرَجَ إِلَيْنَا وَهُوَ مُغْضَبٌ، فَلَمَّا أَخَذَ مَجْلِسَهُ قَالَ: يَا عَجَبًا لِأَقْوَامٍ يَزْعُمُونَ أَنَّا نَعْلَمُ الْغَيْبَ! مَا يَعْلَمُ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، لَقَدْ هَمَمْتُ بِضَرْبِ جَارِيَتِي فُلَانَةَ، فَهَرَبَتْ مِنِّي، فَمَا عَلِمْتُ فِي أَيِّ بُيُوتِ الدَّارِ هِيَ!» وغير ذلك من الراوايات الواردة عن أهل البيت في هذا الباب، ممّا تبلغ حدّ التواتر وتتوافق مع كتاب اللّه، ولذلك صرّح كبار علماء الشيعة منذ القديم بأنّ نسبة علم الغيب إلى أهل البيت هي مثال واضح للغلوّ فيهم، وتعتبر كفرًا وشركًا؛ كما قال محمّد بن عليّ بن بابويه المعروف بالشيخ الصّدوق (ت٣٨١ه‍)، وهو من أكبر علمائهم، في كتاب «كمال الدّين وتمام النعمة»[١٤]: «مَنْ يَنْحَلُ لِلْأَئِمَّةِ عِلْمَ الْغَيْبِ، فَهَذَا كُفْرٌ بِاللَّهِ وَخُرُوجٌ عَنِ الْإِسْلَامِ عِنْدَنَا»، وقال في موضع آخر[١٥]: «وَالْغَيْبُ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، وَمَا ادَّعَاهُ لِبَشَرٍ إِلَّا مُشْرِكٌ كَافِرٌ»، وقال محمّد بن محمّد بن نعمان المعروف بالشيخ المفيد (ت٤١٣ه‍)، وهو أيضًا من أكبر علمائهم، في كتاب «أوائل المقالات»[١٦]: «فَأَمَّا إِطْلَاقُ الْقَوْلِ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ فَهُوَ مُنْكَرٌ بَيِّنُ الْفَسَادِ، لِأَنَّ الْوَصْفَ بِذَلِكَ إِنَّمَا يَسْتَحِقُّهُ مَنْ عَلِمَ الْأَشْيَاءَ بِنَفْسِهِ، لَا بِعِلْمٍ مُسْتَفَادٍ، وَهَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَعَلَى قَوْلِي هَذَا جَمَاعَةُ أَهْلِ الْإِمَامَةِ إِلَّا مَنْ شَذَّ عَنْهُمْ مِنَ الْمُفَوِّضَةِ وَمَنِ انْتَمَى إِلَيْهِمْ مِنَ الْغُلَاةِ».

من هنا يعلم أنّ علم الغيب للّه وحده، ولا يجوز نسبته إلى غيره، وهذا ما أجمع عليه المسلمون من جميع المذاهب الإسلاميّة، ما عدا شرذمة من غلاة الشيعة والصوفيّة، والدليل عليه كتاب اللّه والسنّة المتواترة، لا هذا الوهم أنّه لو كان خليفة اللّه يعلم الغيب لزال اختيار المكلّف؛ لأنّ علم خليفة اللّه بالغيب ليس أكبر من علم اللّه به، وإذا كان علم اللّه به لا ينافي اختيار المكلّف، فإنّ علم خليفته به لا ينافيه من باب أولى، ولا شكّ أنّ علم اللّه بالغيب كافٍ لمن أراد اجتناب الذنوب؛ كما قال تعالى: ﴿وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا[١٧]، وإذا لم يخف الرجل من علم اللّه، فلا ينفعه خوفه من علم الآخرين؛ كما قال تعالى: ﴿يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا[١٨].

↑[١] . يونس/ ٢٠
↑[٢] . الأنعام/ ٥٩
↑[٣] . النّمل/ ٦٥
↑[٤] . فصّلت/ ٦
↑[٥] . الأنعام/ ٥٠
↑[٦] . الأعراف/ ١٨٨
↑[٧] . التّوبة/ ١٠١
↑[٨] . آل عمران/ ١٧٩
↑[٩] . الجنّ/ ٢٦-٢٧
↑[١٠] . نهج البلاغة للشريف الرضي، الخطبة ١٢٨
↑[١١] . رجال الكشي، ج٢، ص٥٨٧
↑[١٢] . رجال الكشي، ج٢، ص٥٨٨
↑[١٣] . الكافي للكليني، ج١، ص٢٥٧
↑[١٤] . كمال الدين وتمام النعمة لابن بابويه، ص١٠٦
↑[١٥] . كمال الدين وتمام النعمة لابن بابويه، ص١١٦
↑[١٦] . أوائل المقالات للمفيد، ص٦٧
↑[١٧] . الإسراء/ ١٧
↑[١٨] . النّساء/ ١٠٨