أخبرنا عدّة من أصحابنا، قالوا: نزل المنصور الهاشميّ الخراسانيّ بقرية ليدعو أهلها إلى اللّه وخليفته في الأرض؛ فاستقبله أهلها وأضافوه ثلاثة أيّام. فلمّا أراد الإنصراف، سارعوا إليه من كلّ جانب وأحاطوا به وقالوا: «يا وليّ اللّه! عِظنا قبل أن تنصرف؛ فإنّا لم نسمع منك كلامًا غير الحكمة، وإنّ كلامك ليحرّك الصّخور!» فوقف جنابه على حافة حوض ليروه جميعًا، ثمّ قال:

أَيُّهَا النَّاسُ! اعْلَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ لَكُمْ رَأْسُ مَالٍ أَنْفَعَ مِنَ الْعِلْمِ، وَالنَّاسُ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ: مَنْ يَعْلَمُ وَمَنْ يَتَعَلَّمُ وَمَنْ لَيْسَ أَحَدًا. أَيُّهَا النَّاسُ! لَا تَغْرَقُوا فِي مَعِيشَتِكُمْ، وَلَا تَغْفُلُوا عَمَّا يَجْرِي عَلَى دُنْيَاكُمْ وَآخِرَتِكُمْ. الْغَفْلَةُ فِي مِثْلِ هَذَا الزَّمَانِ ذَنْبٌ عَظِيمٌ. آنِسُوا بِالْقُرْآنِ وَاعْمَلُوا بِهِ. اعْرِفُوا سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ وَآلِهِ وَاتَّبِعُوهَا. فَعِّلُوا عُقُولَكُمْ وَافْحَصُوا أَقْوَالَ هَؤُلَاءِ -وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى شُيُوخِ الْقَرْيَةِ وَكُبَرَائِهَا-؛ فَإِنْ وَجَدْتُمُوهَا تَتَوَافَقُ مَعَ عُقُولِكُمْ وَتَتَوَافَقُ مَعَ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ فَخُذُوهَا، وَإِلَّا فَاضْرِبُوا بِهَا عَرْضَ الْجِدَارِ وَمَا كَانَ فِيهِ مِنْ إِثْمٍ فَفِي عُنُقِي. لَا تَعْتَبِرُوا أَحَدًا يَسْتَحِقُّ الطَّاعَةَ إِلَّا اللَّهَ وَخُلَفَاءَهُ فِي الْأَرْضِ؛ فَإِنَّ الْيَهُودَ ضَلُّوا بِطَاعَةِ عُلَمَائِهِمْ وَكُبَرَائِهِمْ؛ كَمَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ[١]. التَّقْلِيدُ يُقْحِلُ جُذُورَ الْعَقْلِ وَلَا يَتْرُكُ مَجَالًا لِلتَّفْكِيرِ. لَا تَتَعَصَّبُوا لِعَقَائِدِكُمُ الْقَدِيمَةِ وَآرَائِكُمُ الْخَاطِئَةِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ جَهَنَّمَ. أَفْضَلُكُمْ أَكْثَرُكُمْ مَعْرِفَةً، وَلَيْسَ أَكْثَرَكُمْ صَلَاةً وَصَوْمًا. الْإِيمَانُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ مُتَلَازِمَانِ كَإِصْبَعَيَّ هَاتَيْنِ -وَجَمَعَ بَيْنَ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى- وَلَنْ يَنْفَعَكُمْ أَحَدُهُمَا بِدُونِ الْآخَرِ. الْإِيمَانُ هُوَ أَنْ تَكُونَ لَكُمْ عَقِيدَةٌ صَحِيحَةٌ، وَلَنْ يُفْلِحَ أَبَدًا مَنْ لَيْسَتْ لَهُ عَقِيدَةٌ صَحِيحَةٌ وَإِنْ كَانَ مِنْ أَعْبَدِ النَّاسِ. فَضَعُوا عَقِيدَتَكُمْ فِي مِيزَانِ الْعَقْلِ، وَاعْرِضُوهَا عَلَى الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ لِئَلَّا تَكُونُوا قَدْ أَخْطَأْتُمُ السَّبِيلَ. لَا تَفْتَتِنُوا بِالدُّنْيَا وَلَا تَبِيعُوا بِهَا آخِرَتَكُمْ؛ فَإِنَّ مَنْ بَاعَ آخِرَتَهُ بِالدُّنْيَا فَقَدْ خَسِرَ فِي بَيْعِهِ وَأَفْلَسَ. لَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ النَّفْسِ؛ فَإِنَّ أَهْوَاءَ النَّفْسِ لَا نِهَايَةَ لَهَا، وَلَكِنِ اسْتَمِعُوا لِنِدَاءِ الضَّمِيرِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ لَنْ تُؤَدِّيَ إِلَى النَّدَامَةِ. كَلِمَتِيَ الْأَخِيرَةُ مَعَكُمْ هِيَ أَنْ تَعْرِفُوا إِمَامَ زَمَانِكُمْ؛ فَإِنَّ مَنْ لَا يَعْرِفُ إِمَامَ زَمَانِهِ لَا يَعْرِفُ دِينَهُ وَلَا خَيْرَ فِي مِثْلِهِ[٢]. لَقَدْ كُنْتُ ضَيْفَكُمْ لِبِضْعَةِ أَيَّامٍ، وَالْآنَ سَأَرْحَلُ عَنْكُمْ. لَقَدْ كُنْتُمْ نِعْمَ الْمُضِيفِينَ لِي -جَزَاكُمُ اللَّهُ خَيْرًا-؛ فَهَلْ كُنْتُ لَكُمْ نِعْمَ الضَّيْفِ؟

فأجابه الناس من كلّ جانب: «لقد كنت خير ضيف نزل عندنا إلى الآن»، فقال:

إِنْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَلَا تَنْسَوْنِي وَلَا تَنْسَوْا كَلَامِي، وَتَذَاكَرُوهُ بَيْنَكُمْ، وَأَبْلِغُوهُ مَنْ لَا يَعْرِفُنِي وَلَا يَعْرِفُ كَلَامِي، لَعَلَّ اللَّهَ يَنْفَعُهُ بِذَلِكَ. إِنَّ اللَّهَ سَوْفَ يَسْأَلُكُمْ عَنِّي أَنْ هَلْ سَمِعْتُمْ كَلَامَ عَبْدِي الَّذِي جِئْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ؟ أَسْتَوْدِعُكُمُ اللَّهَ الرَّحِيمَ جَمِيعًا، وَآمُلُ أَنْ يُعِيدَنِي قَضَاؤُهُ إِلَيْكُمْ أَوْ يُعِيدَكُمْ إِلَيَّ؛ وَالسَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ.

ثمّ نزل من حافة الحوض وذهب إلى شيوخ القرية الذين كانوا واقفين جانبًا ومستمعين إلى أقواله بغضب، واسترضاهم؛ لأنّه علم أنّهم حقدوا عليه. ثمّ خرج هو وأصحابه من القرية ليسيروا في الأرض ويدعوا إلى اللّه وخليفته.

↑[١] . التّوبة/ ٣١
↑[٢] . أراد بإمام الزمان من جعله اللّه إمامًا لأهل الزمان، وهو المهديّ عليه السلام.