أَخْبَرَنَا عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ عَبْدِ الْقَيُّومِ، قَالَ: سَأَلْتُ الْمَنْصُورَ الْهَاشِمِيَّ الْخُرَاسَانِيَّ عَنِ الْأَخْذِ بِالرِّوَايَةِ، فَكَرِهَهُ وَقَالَ: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ رِوَايَةٍ إِلَّا مَا تَوَاتَرَ عَلَيْهَا الْأَلْسُنُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ لَا يُعْبَدُ بِالظَّنِّ وَإِنَّمَا يُعْبَدُ بِالْيَقِينِ! قُلْتُ: وَمَا حَدُّ التَّوَاتُرِ؟ قَالَ: مَا يَسْتَيْقِنُ بِهِ عُقَلَاءُ النَّاسِ، قُلْتُ: وَكَمْ ذَا؟ قَالَ: أَرْبَعَةُ رِجَالٍ ذَوِي عَدْلٍ إِذَا لَمْ يَخْتَلِفُوا، كَمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ ۚ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ![١] قُلْتُ: رُبَّمَا يَخْتَلِفُونَ فِي أَلْفَاظِهِمْ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ، قَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ، وَلَا يَكُونَ بَعْضُهُمْ قُرَنَاءَ بَعْضٍ فَيُتَّهَمُوا فِي رِوَايَتِهِمْ! ثُمَّ مَكَثَ هُنَيَّةً، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ السَّلَفِيَّةَ تَرَكُوا الْعَقْلَ فَشَاهَتْ وُجُوهُهُمْ!

شرح القول:

يستفاد من قول جنابه هذا وسائر أقواله الطيّبة أنّ المتواتر حديث رواه عدد من الرّواة لا يُعقل اجتماعهم على الكذب أو الخطأ بالنظر إلى كثرتهم وانتشارهم، ولذلك يؤدّي العقلاء إلى اليقين بصدوره وليس لرواته عدد محدّد؛ كما لم يحدّده حفظه اللّه تعالى في البداية إذا سئل عنه ولكنّه قال: «مَا يَسْتَيْقِنُ بِهِ عُقَلَاءُ النَّاسِ»، فلمّا راجعه السائل جعل له حدًّا وهو أربعة رجال؛ لأنّه العدد الذي حدّده اللّه تعالى في كتابه لأهمّ الشهادات عنده واعتبر ما دونه كذبًا، فقال: ﴿لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ ۚ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ وهذا شيء يصدّقه الحسّ إذا كان الأربعة عدولًا ولم يختلفوا فيما بينهم اختلافًا قادحًا ولم يكن بعضهم قرناء بعض فيتّهموا في روايتهم بالتواطئ بينهم، وعليه فإنّ للحديث المتواتر أربعة شروط:

١ . لا يكون رواته أقلّ من أربعة رجال في كلّ طبقة منهم.

٢ . يكون رواته عدولًا إذا لم يزيدوا على أربعة رجال في كلّ طبقة منهم، فإن زادوا اضمحلّ هذا الشرط.

٣ . لا يختلف رواته بحيث يناقض بعضهم بعضًا فيما يتعلّق بمعناه وإن اختلفوا في ألفاظهم.

٤ . لا يكون بين رواته قرابة أو اتّصال خاصّ يجعلهم متّهمين بالتواطئ بينهم.

وأمّا قول جنابه في السّلفيّة الذين لا يستخدمون العقل في معرفة اللّه ومعرفة دينه، فهو يحتمل وجهين: أحدهما الدّعاء عليهم بسبب هذا التقصير العظيم الذي أدّاهم إلى انحرافات عظيمة في العقائد والأعمال؛ كما قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم يوم بدر إذ أخذ ملأ كفّه من الحصباء فرمى بها وجوه المشركين وقال: «شَاهَتِ الْوُجُوهُ» أي قبحت والثاني الإخبار بما شوّه وجوه كثير من سادتهم وكبرائهم الذين يضلّونهم بغير علم وهذا ممّا لا يخفى على الناظرين، وعليه فإنّ ترك العقل هو الذي فعل ذلك بهم والشاهد على هذا الوجه ما أخبرنا به بعض أصحابنا، قال:

قُلْتُ لِلْمَنْصُورِ: إِنِّي رَأَيْتُ فِي الْمَسْجِدِ رَجُلًا كَأَنَّ رَأْسَهُ رَأْسُ حِمَارٍ، فَكَلَّمْتُهُ فَإِذَا هُوَ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ! قَالَ: أَعَجِبْتَ مِنْ ذَلِكَ؟! أَلَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَظُنُّ أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ مَسْخٌ لَكَانَ فِي أَصْحَابِ الْحَدِيثِ! قُلْتُ: لِمَ ذَلِكَ؟! قَالَ: لِأَنَّهُمْ فُتِنُوا بِالْحَدِيثِ، فَتَرَكُوا كِتَابَ اللَّهِ وَتَرَكُوا عُقُولَهُمْ، وَلَوْ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَدْرَكَهُمْ لَأَلْحَقَهُمْ بِجَزَائِرِ الْبَحْرِ!

↑[١] . النّور/ ١٣