أخبرنا عدّة من أصحابنا، قالوا: جاء رجل من أرض بعيدة إلى المنصور الهاشميّ الخراسانيّ أيّده اللّه تعالى، وبعد كلام جرى بينهما أمسك بيده وقال: «أشهد أنّك الممهّد الموعود للمهديّ الذي أمرنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم بنصره»! فلمّا سمع المنصور هذا، سحب يده على الفور من يد الرجل وقال له معاتبًا إيّاه:

دَعْنِي مِنْ هَذَا يَا أَخِي! أَقَطَعْتَ كُلَّ هَذَا الطَّرِيقِ مِنْ أَرْضِكَ لِتَأْتِيَنِي فَتَخْدَعَنِي عَنْ دِينِي؟! وَاللَّهِ إِنِّي لَأُمَهِّدُ لِظُهُورِ الْمَهْدِيِّ وَلَكِنْ لَا أُبَالِي بِأَيِّ الْأَسْمَاءِ تُسَمِّينِي؛ فَإِنِّي لَمْ أَجْعَلِ السَّمَاءَ سَقْفِي وَالْأَرْضَ بِسَاطِي، وَلَمْ أَرْمِ نَفْسِي فِي مُحِيطِ الْبَلَاءِ كَقِطْعَةٍ مِنَ الصَّخْرَةِ، لِتَأْتِيَنِي أَنْتَ مِنْ أَرْضِكَ فَتُسَمِّيَنِي الْمَوْعُودَ! أَلَسْتُ ابْنَ الْإِنْسَانِ؟! فَسَمِّنِي ابْنَ الْإِنْسَانِ وَصَاحِبْنِي فِي الطَّرِيقِ الَّذِي أَسْلُكُهُ؛ فَإِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى الْمَهْدِيِّ وَسَوْفَ أَصِلُ إِلَيْهِ مَعَكَ أَوْ بِدُونِكَ.

ثمّ نهض ليذهب، فقال بصوت عالٍ:

أَنَا مُنَادٍ بَيْنَ يَدَيِ الْمَهْدِيِّ يُنَادِي: افْتَحُوا الطَّرِيقَ!

شرح القول:

هذا يدلّ على أنّ وجوب نصرة هذا العالم الممهّد لظهور المهديّ، يرجع إلى التوافق التامّ بين تعاليمه وأهدافه وبين العقل والشرع، بغضّ النظر عمّا إذا كان يسمّى موعودًا أم لا؛ لأنّ اللّه تعالى يقول: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى[١] ولا شكّ أنّ قيامه بالتمهيد لظهور المهديّ وفقًا للعقل والشرع، هو أعظم مثال على البرّ والتقوى، ولذلك يجب على كلّ مسلم إعانته عليه بحكم اللّه تعالى، سواء حصل له العلم بأنّه المنصور الخراسانيّ -صاحب الرايات السّود- الذي وعده رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم في الروايات المتواترة أم لم يحصل. من ثمّ ترى هذا العظيم، مع أنّه لا يدانيه أحد في العلم والفضل وتنطبق عليه جميع الأوصاف المرويّة في المنصور الخراسانيّ الموعود، لا يدّعي لنفسه شيئًا ولا يهتمّ بإثبات مقام لنفسه، بل يكره اهتمام أصحابه بذلك وينهاهم عن الخوض فيه، تمامًا على عكس المدّعين الكذبة؛ فإنّهم مع ظهور جهلهم وضلالتهم، ينخرطون في الدعاوي المحيّرة للعقول ويتنافسون في اتّخاذ الألقاب المخالفة للمنقول، ثمّ لا يكون لهم همّ غير إثبات تلك الأباطيل؛ فيبذلون أقصى الجهود ويتشبّثون بأوهن من بيت العنكبوت، مولعين بالجدل ومنهمكين في المغالطة، يحرصون أشدّ الحرص على إقناع الناس بكلّ ما يستطيعون، ولا يُقنعون إلا من لا علم له ولا عقل، وهم للأسف كثيرون، وشتّان ما بين هؤلاء السّفلة وبين المنصور الهاشمي الخراساني الذي لا همّ له إلا تعليم القرآن وإحياء السنّة وإيقاظ العقول والدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجمع العدّة لنصرة خليفة اللّه المهديّ، دون أن يدّعي لنفسه شيئًا أو يتكلّم فيما لا يعنيه، وقد أغناه اللّه تعالى عن ذلك وعظّم قدره وأوضح مناره وليس له نعت أحسن من قول عليّ عليه السلام إذ قال: «عِبَادَ اللَّهِ! إِنَّ مِنْ أَحَبِّ عِبَادِ اللَّهِ إِلَيْهِ عَبْدًا أَعَانَهُ اللَّهُ عَلَى نَفْسِهِ، فَاسْتَشْعَرَ الْحُزْنَ وَتَجَلْبَبَ الْخَوْفَ، فَزَهَرَ مِصْبَاحُ الْهُدَى فِي قَلْبِهِ وَأَعَدَّ الْقِرَى لِيَوْمِهِ النَّازِلِ بِهِ، فَقَرَّبَ عَلَى نَفْسِهِ الْبَعِيدَ وَهَوَّنَ الشَّدِيدَ، نَظَرَ فَأَبْصَرَ وَذَكَرَ فَاسْتَكْثَرَ، وَارْتَوَى مِنْ عَذْبٍ فُرَاتٍ سُهِّلَتْ لَهُ مَوَارِدُهُ، فَشَرِبَ نَهَلًا وَسَلَكَ سَبِيلًا جَدَدًا، قَدْ خَلَعَ سَرَابِيلَ الشَّهَوَاتِ، وَتَخَلَّى مِنَ الْهُمُومِ إِلَّا هَمًّا وَاحِدًا انْفَرَدَ بِهِ، فَخَرَجَ مِنْ صِفَةِ الْعَمَى وَمُشَارَكَةِ أَهْلِ الْهَوَى وَصَارَ مِنْ مَفَاتِيحِ أَبْوَابِ الْهُدَى وَمَغَالِيقِ أَبْوَابِ الرَّدَى، قَدْ أَبْصَرَ طَرِيقَهُ وَسَلَكَ سَبِيلَهُ وَعَرَفَ مَنَارَهُ وَقَطَعَ غِمَارَهُ وَاسْتَمْسَكَ مِنَ الْعُرَى بِأَوْثَقِهَا وَمِنَ الْحِبَالِ بِأَمْتَنِهَا، فَهُوَ مِنَ الْيَقِينِ عَلَى مِثْلِ ضَوْءِ الشَّمْسِ، قَدْ نَصَبَ نَفْسَهُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ فِي أَرْفَعِ الْأُمُورِ مِنْ إِصْدَارِ كُلِّ وَارِدٍ عَلَيْهِ وَتَصْيِيرِ كُلِّ فَرْعٍ إِلَى أَصْلِهِ، مِصْبَاحُ ظُلُمَاتٍ، كَشَّافُ عَشَوَاتٍ، مِفْتَاحُ مُبْهَمَاتٍ، دَفَّاعُ مُعْضِلَاتٍ، دَلِيلُ فَلَوَاتٍ، يَقُولُ فَيُفْهِمُ وَيَسْكُتُ فَيَسْلَمُ، قَدْ أَخْلَصَ لِلَّهِ فَاسْتَخْلَصَهُ، فَهُوَ مِنْ مَعَادِنِ دِينِهِ وَأَوْتَادِ أَرْضِهِ، قَدْ أَلْزَمَ نَفْسَهُ الْعَدْلَ، فَكَانَ أَوَّلَ عَدْلِهِ نَفْيُ الْهَوَى عَنْ نَفْسِهِ، يَصِفُ الْحَقَّ وَيَعْمَلُ بِهِ، لَا يَدَعُ لِلْخَيْرِ غَايَةً إِلَّا أَمَّهَا وَلَا مَظِنَّةً إِلَّا قَصَدَهَا، قَدْ أَمْكَنَ الْكِتَابَ مِنْ زِمَامِهِ، فَهُوَ قَائِدُهُ وَإِمَامُهُ، يَحُلُّ حَيْثُ حَلَّ ثَقَلُهُ وَيَنْزِلُ حَيْثُ كَانَ مَنْزِلُهُ»[٢].

↑[١] . المائدة/ ٢
↑[٢] . نهج البلاغة للشريف الرضي، الخطبة ٨٧